السؤال :
فصل في ظواهر النصوص ومراداتها
الجواب :
القاعدة الثالثة:
إذا قال القائل: ظاهر النصوص مراد، أو ظاهرها ليس بمراد، فإنه يقال: لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرًا وباطلًا، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر، أو ضلال، والذين يجعلون ظاهرها ذلك، يغلطون من وجهين: تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجًا إلى تأويل يخالف الظاهر ولا يكون كذلك، وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل فالأول كما قالوا في قوله: (عبدي جعت فلم تطعمني) الحديث وفي الأثر الآخر: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه أو قبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه) وقوله: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن) فقالوا: قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق.
فيقال لهم: لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لم تدل إلا على حق أما الواحد فقوله: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه) صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله، ولا هو نفس يمينه، لأنه قال: (يمين الله في الأرض) وقال: (فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه) ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به، ففي نفس الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحًا لله، وأنه ليس هو نفس يمينه فكيف يجعل ظاهره كفرًا لأنه محتاج إلى التأويل. مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس؟ وأما الحديث الآخر: فهو في الصحيح مفسرًا: (يقول الله عبدي جعت فلم تطعمنى فيقول: رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي. عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض، فلو عدته لوجدتني عنده) وهذا صريح في أن الله سبحانه لم يمرض، ولا يجع، ولكن مرض عبده وجوع عبده فجعل جوعه جوعه، ومرضه مرضه، مفسرًا ذلك بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده، فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل، وأما قوله (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن)، فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوفه، ولا في قول القائل هذا بين يدي ما يقتضي مباشرته ليديه، وإذا قيل: السحاب المسخر بين السماء والأرض، لم يقتض أن يكون مماسًا للسماء والأرض، ونظائر هذا كثيرة، ومما يشبه هذا القول؛ أن يجعل اللفظ نظيرًا لما ليس مثله، كما قيل في قوله {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ؟} [ص: 75]. فقيل هو مثل قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}؟ [يس: 71]. فهذا ليس مثل هذا، لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي، فصار شبيهًا بقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]. وهنا أضاف الفعل إليه فقال: {لِمَا خَلَقْتُ} ثم قال: {بِيَدَيَّ} وأيضا: فإنه هنا ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد وفي اليدين ذكر لفظ التثنية، كما في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] وهناك أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع، فصار كقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14].
وهذا في الجمع نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]. وبيده الخير في المفرد فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد مظهرًا أو مضمرًا، وتارة بصيغة الجمع، كقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: 1]. وأمثال ذلك. ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط، لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه، وأما صيغة التثنية، فتدل على العدد المحصور، وهو مقدس عن ذلك، فلو قال: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. لما كان كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] وهو نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]. وبيده الخير، ولو قال خلقت بصيغة الإفراد، لكان مفارقًا له، فكيف إذا قال خلقت بيدي؟ بصيغة التثنية، هذا مع دلالات الأحاديث المستفيضة بل المتواترة وإجماع السلف على مثل ما دل عليه القرآن، كما هو مبسوط في موضعه مثل قوله: (المقسطون عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم وما ولوا). وأمثال ذلك، وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، والظاهر هو المراد في الجميع؛ فإن الله لما أخبر أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد: كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا، وقدرته كقدرتنا، وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة، عالم حقيقة، قادر حقيقة، لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير، فكذلك إذا قالوا في قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] {رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [المائدة: 119] وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]. أنه على ظاهره، لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق، ولا حبًا كحبه، ولا رضًا كرضاه، فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين؛ لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مرادًا وإن كان يعتقد أن ظاهرها ما يليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مرادا؛ إلا بدليل يدل على النفي، وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا، إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات فيكون الكلام في الجميع واحدا. وبيان هذا أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام، وهي أبعاض لنا كالوجه واليد، ومنها ما هو معان وأعراض وهي قائمة بنا، كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة. ثم أن من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير: لم يقل المسلمون أن ظاهر هذا غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا، فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه، لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا بل صفة الموصوف تناسبه. فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، فصفاته كذاته ليست كصفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه، كما قال صلى الله عليه وسلم (ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر) فشبه الرؤية بالرؤية، ولم يشبه المرئي بالمرئي. وهذا يتبين.