السؤال :
فصــل: في قول من قال إن الحشوية على ضربين
الجواب :
وأما قول من قال: إن الحشوية على ضربين، أحدهما: لا يتحاشى من الحشو والتشبيه والتجسيم، والآخر: تستر بمذهب السلف. ومذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه، دون التشبيه والتجسيم، وكذا جميع المبتدعة يزعمون هذا فيهم كما قال القائل:
وكل يدعي وصلاً لليلى ** وليلى لا تقر لهم بذاكا
فهذا الكلام فيه حق وباطل .
فمن الحق الذي فيه: ذم من يمثل الله بمخلوقاته، ويجعل صفاته من جنس صفاتهم، وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وقال تعالى : {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}
[الإخلاص:4]، وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]
وقد بسطنا القول في ذلك، وذكرنا الدلالات العقلية التي دل عليها كتاب الله في نفي ذلك، وبينا منه ما لم يذكره النفاة الذين يتسمون بالتنزيه، ولا يوجد في كتبهم، ولا يسمع من أئمتهم، بل عامة حججهم التي يذكرونها حجج ضعيفة؛ لأنهم يقصدون إثبات حق وباطل، فلا يقوم على ذلك حجة مطردة سليمة عن الفساد، بخلاف من اقتصد في قوله وتحرى القول السديد؛ فإن الله يصلح عمله، كما قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب:70، 71].
وفيه من الحق الإشارة إلى الرد على من انتحل مذهب السلف مع الجهل بمقالهم، أو المخالفة لهم بزيادة أو نقصان. فتمثيل الله بخلقه والكذب على السلف من الأمور المنكرة، سواء سمى ذلك حشوًا أو لم يسم، وهذا يتناول كثيرًا من غالية المثبتة الذين يروون أحاديث موضوعة في الصفات مثل حديث[عَرَق الخيل] و[نزوله عشية عَرَفَة على الجمل الأورق حتى يصافح المشاة ويعانق الركبان]، و[تجلّيه لنبيه في الأرض]، أو[رؤيته له على كرسي بين السماء والأرض]، أو[رؤيته إياه في الطواف] أو [في بعض سكك المدينة]، إلى غير ذلك من الأحاديث الموضوعة.
فقد رأيت من ذلك أمورًا من أعظم المنكرات والكفران، وأحضر لي غير واحد من الناس من الأجزاء والكتب ما فيه من ذلك ما هو من الافتراء على الله وعلى رسوله. وقد وضع لتلك الأحاديث أسانيد، حتى إن منهم من عمد إلى كتاب صنفه الشيخ أبو الفرج المقدسي، فيما يمتحن به السُّنِّي من البدعي. فجعل ذلك الكتاب مما أوحاه الله إلى نبيه ليلة المعراج، وأمره أن يمتحن به الناس، فمن أقرَّ به فهو سني، ومن لم يقر به فهو بدعي، وزادوا فيه على الشيخ أبي الفرج أشياء لم يقلها هو ولا عاقل، والناس المشهورون قد يقول أحدهم من المسائل والدلائل ما هو حق أو فيه شبهة حق، فإذا أخذ الجهال ذلك فغيروه صار فيه من الضلال ما هو من أعظم الإفك والمحال.
والمقصود أن كلامه فيه حق وفيه من الباطل أمور:
أحدها: قوله: لا يتحاشى من الحشو والتجسيم ذم للناس بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، والذي مدحه زين وذمه شين هو الله. والأسماء التي يتعلق بها المدح والذم من الدين، لا تكون إلا من الأسماء التي أنزل الله بها سلطانه، ودل عليها الكتاب والسنة أو الإجماع، كالمؤمن، والكافر والعالم، والجاهل، والمقتصد، والملحد.
فأما هذه الألفاظ الثلاثة فليست في كتاب الله، ولا في حديث عن رسول الله، ولا نطق بها أحد من سلف الأمة وأئمتها لا نفيًا ولا إثباتًا.
وأول من ابتدع الذم بها[المعتزلة] الذين فارقوا جماعة المسلمين، فاتباع سبيل المعتزلة دون سبيل سلف الأمة ترك للقول السديد الواجب في الدين، واتباع لسبيل المبتدعة الضالين، وليس فيها ما يوجد عن بعض السلف ذمه إلا لفظ [التشبيه]، فلو اقتصر عليه لكان له قدوة من السلف الصالح، ولو ذكر الأسماء التي نفاها الله في القرآن ـ مثل لفظ [الكفء، والند، والسمى] وقال: منهم من لا يتحاشى من التمثيل ونحوه ـ لكان قد ذم بقول نفاه الله في كتابه، ودل القرآن على ذم قائله ثم ينظر: هل قائله موصوف بما وصفه به من الذم أم لا؟
فأما الأسماء التي لم يدل الشرع على ذم أهلها ولا مدحهم، فيحتاج فيها إلى مقامين:
أحدهما: بيان المراد بها. والثاني: بيان أن أولئك مذمومون في الشريعة.
والمعترض عليه له أن يمنع المقامين، فيقول: لا نسلم أن الذين عنيتهم داخلون في هذه الأسماء التي ذممتها، ولم يقم دليل شرعي على ذمها، وإن دخلوا فيها، فلا نسلم أن كل من دخل في هذه الأسماء فهو مذموم في الشرع.
الوجه الثاني: أن هذا الضرب الذي قلت: [إنه لا يتحاشى من الحشو والتشبيه والتجسيم] إما أن تدخل فيه مثبتة الصفات الخبرية التي دل عليها الكتاب والسنة، أو لا تدخلهم، فإن أدخلتهم كنت ذامًا لكل من أثبت الصفات الخبرية، ومعلوم أن هذا مذهب عامة السلف، ومذهب أئمة الدين.
بل أئمة المتكلمين يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، وإن كان لهم فيها طرق كأبي سعيد بن كلاب، وأبي الحسن الأشعري، وأئمة أصحابه،؛ كأبي عبد الله بن مجاهد، وأبي الحسن الباهلي، والقاضي أبي بكر ابن الباقلاني، وأبي إسحاق الإسفرائيني [هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهْران الإسفرائيني، الأصولي الشافعي، الملقب ركن الدين، صاحب المصنفات الباهرة، له الجامع في أصول الدين و أدب الجدل و مسائل الدرر وغيرها، توفى بنيسابور سنة 814هـ]، وأبي بكر ابن فُورَك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي ابن شاذان، وأبي القاسم القشيري، وأبي بكر البيهقي، وغير هؤلاء. فما من هؤلاء إلا من يثبت من الصفات الخبرية ما شاء الله ـ تعالى ـ وعماد المذهب عنهم: إثبات كل صفة في القرآن، وأما الصفات التي في الحديث، فمنهم من يثبتها ومنهم من لا يثبتها.
فإذا كنت تذم جميع أهل الإثبات من سلفك وغيرهم، لم يبق معك إلا الجهمية ـ من المعتزلة ـ ومن وافقهم على نفي الصفات الخبرية ـ من متأخري الأشعرية ونحوهم ـ ولم تذكر حجة تعتمد.
فأي ذم لقوم في أنهم لا يتحاشون مما عليه سلف الأمة وأئمتها وأئمة الذام لهم؟
وإن لم تدخل في اسم الحشوية من يثبت الصفات الخبرية، لم ينفعك هذا الكلام، بل قد ذكرت أنت في غير هذا الموضع هذا القول.
وإذا كان الكلام لا يخرج به الإنسان عن أن يذم نفسه، أو يذم سلفه ـ الذين يقر هو بإمامتهم، وأنهم أفضل ممن اتبعهم ـ كان هو المذموم بهذا الذم على التقديرين، وكان له نصيب من الخوارج الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم لأولهم: (لقد خبت وخسرت، إن لم أعدل) يقول: إذا كنت مقرًا بأني رسول الله، وأنت تزعم أني أظلم، فأنت خائب خاسر. وهكذا من ذم من يقر بأنهم خيار الأمة وأفضلها، وأن طائفته إنما تلقت العلم والإيمان منهم، هوخائب خاسر في هذا الذم، وهذه حال الرافضة في ذم الصحابة.
الوجه الثالث: قوله: [والآخر يتستر بمذهب السلف]، إن أردت بالتستر الاستخفاء بمذهب السلف، فيقال: ليس مذهب السلف مما يتستر به إلا في بلاد أهل البدع، مثل بلاد الرافضة والخوارج ،فإن المؤمن المستضعف هناك قد يكتم إيمانه واستنانه، كما كتم مؤمن آل فرعون إيمانه، وكما كان كثير من المؤمنين يكتم إيمانه حين كانوا في دار الحرب.
فإن كان هؤلاء في بلد أنت لك فيه سلطان ـ وقد تستروا بمذهب السلف ـ فقد ذممت نفسك، حيث كنت من طائفة يستر مذهب السلف عندهم، وإن كنت من المستضعفين المستترين بمذهب السلف فلا معنى لذم نفسك، وإن لم تكن منهم ولا من الملأ، فلا وجه لذم قوم بلفظ التستر.
وإن أردت بالتستر: أنهم يجتنون به، ويتقون به غيرهم، ويتظاهرون به، حتى إذا خوطب أحدهم قال: أنا على مذهب السلف ـ وهذا الذي أراده، والله أعلم ـ فيقال له: لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق؛ فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقًا، فإن كان موافقًا له باطنًا وظاهرًا، فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطنًا وظاهرًا، وإن كان موافقًا له في الظاهر فقط دون الباطن، فهو بمنزلة المنافق فتقبل منه علانيته وتُوكَل سريرته إلى الله، فإنا لم نؤمر أن نُنَقِّب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم.
وأما قوله : مذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه دون التجسيم والتشبيه.
فيقال له: لفظ التوحيد، والتنزيه، والتشبيه، والتجسيم ألفاظ قد دخلها الاشتراك، بسبب اختلاف اصطلاحات المتكلمين وغيرهم، وكل طائفة تعني بهذه الأسماء ما لا يعنيه غيرهم.
فالجهمية من المعتزلة وغيرهم يريدون بالتوحيد والتنزيه: نفى جميع الصفات، وبالتجسيم والتشبيه: إثبات شيء منها، حتى إن من قال: [إن الله يرى]، أو [إن له علمًا]، فهو عندهم مشبه مجسم.
وكثير من المتكلمة الصفاتية يريدون بالتوحيد والتنزيه: نفي الصفات الخبرية أو بعضها، وبالتجسيم والتشبيه إثباتها أو بعضها.
والفلاسفة تعني بالتوحيد ما تعنيه المعتزلة وزيادة، حتى يقولون: ليس له إلا صفة سلبية أو إضافية، أو مركبة منهما.
والاتحادية تعني بالتوحيد: أنه هو الوجود المطلق، ولغير هؤلاء فيه اصطلاحات أخرى.
وأما التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب، فليس هو متضمنًا شيئًا من هذه الاصطلاحات، بل أمر الله عباده أن يعبدوه وحده، لا يشركوا به شيئًا، فلا يكون لغيره نصيب فيما يختص به من العبادة وتوابعها ـ هذا في العمل. وفي القول: هو الإيمان بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله.
فإن كنت تعني أن مذهب السلف هو التوحيد بالمعنى الذي جاء به الكتاب والسنة، فهذا حق، وأهل الصفات الخبرية لا يخالفون هذا.
وإن عنيت أن مذهب السلف هو التوحيد والتنزيه الذي يعنيه بعض الطوائف، فهذا يعلم بطلانه كل من تأمل أقوال السلف الثابتة عنهم، الموجودة في كتب آثارهم، فليس في كلام أحد من السلف كلمة توافق ما تختص به هذه الطوائف، ولا كلمة تنفي الصفات الخبرية.
ومن المعلوم أن مذهب السلف إن كان يعرف بالنقل عنهم، فليرجع في ذلك إلى الآثار المنقولة عنهم، وإن كان إنما يعرف بالاستدلال المحض بأن يكون كل من رأى قولاً عنده هو الصواب قال: هذا قول السلف؛ لأن السلف لا يقولون إلا الصواب، وهذا هو الصواب، فهذا هو الذي يجرئ المبتدعة على أن يزعم كل منهم أنه على مذهب السلف، فقائل هذا القول قد عاب نفسه بنفسه حيث انتحل مذهب السلف بلا نقل عنهم، بل بدعواه: أن قوله هو الحق.
وأما أهل الحديث، فإنما يذكرون مذهب السلف بالنقول المتواترة،يذكرون من نقل مذهبهم من علماء الإسلام، وتارة يروون نفس قولهم في هذا الباب، كما سلكناه في جواب الاستفتاء.
فإنا لما أردنا أن نبين مذهب السلف ذكرنا طريقين:
أحدهما: أنا ذكرنا ما تيسر من ذكر ألفاظهم، ومن روى ذلك من أهل العلم بالأسانيد المعتبرة.
والثاني: أنا ذكرنا من نقل مذهب السلف من جميع طوائف المسلمين من طوائف الفقهاء الأربعة، ومن أهل الحديث والتصوف، وأهل الكلام، كالأشعري وغيره.
فصار مذهب السلف منقولاً بإجماع الطوائف وبالتواتر، لم نثبته بمجرد دعوى الإصابة لنا والخطأ لمخالفنا، كما يفعل أهل البدع.
ثم لفظ[التجسيم]لا يوجد في كلام أحد من السلف ـ لا نفيًا ولا إثباتًا ـ فكيف يحل أن يقال: مذهب السلف نفي التجسيم أو إثباته، بلا ذكر لذلك اللفظ ولا لمعناه عنهم؟!.
وكذلك لفظ [التوحيد]ـ بمعنى: نفي شيء من الصفات ـ لايوجد في كلام أحد من السلف.
وكذلك لفظ التنزيه ـ بمعني نفي شيء من الصفات الخبرية ـ لا يوجد في كلام أحد من السلف.
نعم، لفظ [التشبيه] موجود في كلام بعضهم وتفسيره معه، كما قد كتبناه عنهم، وأنهم أرادوا بالتشبيه: تمثيل الله بخلقه، دون نفي الصفات التي في القرآن والحديث.
وأيضًا، فهذا الكلام لو كان حقًا في نفسه لم يكن مذكورًا بحجة تتبع، وإنما هو مجرد دعوى على وجه الخصومة التي لا يعجز عنها من يستجيز ويستحسن أن يتكلم بلا علم ولا عدل.
ثم إنه يدل على قلة الخبرة بمقالات الناس من أهل السنة والبدعة؛ فإنه قال: [وكذا جميع المبتدعة يزعمون أنهم على مذهب السلف]، فليس الأمر كذلك، بل الطوائف المشهورة بالبدعة ـ كالخوارج والروافض ـ لا يدعون أنهم على مذهب السلف، بل هؤلاء يكفرون جمهور السلف. فالرافضة تطعن في أبي بكر، وعمر، وعامة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وسائر أئمة الإسلام، فكيف يزعمون أنهم على مذهب السلف؟ ولكن ينتحلون مذهب أهل البيت كذبًا وافتراء.
وكذلك الخوارج، قد كَفَّروا عثمان، وعليًا، وجمهور المسلمين من الصحابة والتابعين، فكيف يزعمون أنهم على مذهب السلف؟
الوجه الرابع: أن هذا الاسم ليس له ذكر في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين، ولا من أئمة المسلمين، ولا شيخ أو عالم مقبول عند عموم الأمة. فإذا لم يكن ذلك لم يكن في الذم به لا نص ولا إجماع، ولا ما يصلح تقليده للعامة، فإذا كان الذم بلا مستند للمجتهد ولا للمقلدين عمومًا كان في غاية الفساد والظلم؛ إذ لو ذم به بعض من يصلح لبعض العامة تقليده لم يكن له أن يحتج به؛ إذ المقلد الآخر لمن يصلح له تقليده لا يذم به.
ثم مثل أبى محمد وأمثاله لم يكن يستحل أن يتكلم في كثير من فروع الفقه بالتقليد، فكيف يجوز له التكلم في أصول الدين بالتقليد؟
والنكتة: أن الذام به إما مجتهد، وإما مقلد. أما المجتهد، فلا بد له من نص أو إجماع، أو دليل يستنبط من ذلك، فإن الذم والحمد من الأحكام الشرعية، وقد قدمنا بيان ذلك، وذكرنا أن الحمد والذم، والحب والبغض، والوعد والوعيد، والموالاة والمعاداة، ونحو ذلك من أحكام الدين، لا يصلح إلا بالأسماء التي أنزل الله بها سلطانه، فأما تعليق ذلك بأسماء مبتدعة فلا يجوز، بل ذلك من باب شرع دين لم يأذن به الله، وأنه لابد من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله.
والمعتزلة ـ أيضًا ـ تفسق من الصحابة والتابعين طوائف، وتطعن في كثير منهم وفيما رَوَوْه من الأحاديث التي تخالف آراءهم وأهواءهم، بل تكفر ـ أيضًا ـ من يخالف أصولهم التي انتحلوها من السلف والخلف، فلهم من الطعن في علماء السلف وفي علمهم ما ليس لأهل السنة والجماعة، وليس انتحال مذهب السلف من شعائرهم ـ وإن كانوا يقررون خلافة الخلفاء الأربعة، ويعظمون من أئمة الإسلام وجمهورهم ما لا يعظمه أولئك ـ فلهم من القدح في كثير منهم ما ليس هذا موضعه و[للنظَّام] من القدح في الصحابة ما ليس هذا موضعه.
وإن كان من أسباب انتقاص هؤلاء المبتدعة للسلف ما حصل في المنتسبين إليهم من نوع تقصير وعدوان، وما كان من بعضهم من أمور اجتهادية الصواب في خلافها ـ فإن ما حصل من ذلك صار فتنة للمخالف لهم ضل به ضلالاً كبيرًا.
فالمقصود هنا أن المشهورين من الطوائف ـ بين أهل السنة والجماعة ـ العامة بالبدعة ليسوا منتحلين للسلف، بل أشهر الطوائف بالبدعة: الرافضة، حتى إن العامة لا تعرف من شعائر البدع إلا الرفض. والسني في اصطلاحهم: من لا يكون رافضيًا؛ وذلك لأنهم أكثر مخالفة للأحاديث النبوية ولمعاني القرآن، وأكثر قدحًا في سلف الأمة وأئمتها، وطعنًا في جمهور الأمة من جميع الطوائف، فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة.
فَعُلِمَ أن شعار أهل البدع هو ترك انتحال اتباع السلف؛ ولهذا قال الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك [هو أبو محمد عبدوس بن عبد الله بن محمد بن مالك، الحافظ الكبير، سمع من قتيبة بن سعيد وإسحاق ابن راهويه وغيرهما، وتوفي سنة 282هـ وقيل: سنة 283هـ ]: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما متكلمة أهل الإثبات من الكُلاَّبية، والكُرَّامية، والأشعرية، مع الفقهاء والصوفية، وأهل الحديث، فهؤلاء في الجملة لا يطعنون في السلف، بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالاتهم، لكن كل من كان بالحديث من هؤلاء أعلم، كان بمذهب السلف أعلم وله أَتْبَع. وإنما يوجد تعظيم السلف عند كل طائفة بقدر استنانها، وقلة ابتداعها.
أما أن يكون انتحال السلف من شعائر أهل البدع، فهذا باطل قطعًا، فإن ذلك غير ممكن إلا حيث يكثر الجهل ويقل العلم.
يوضح ذلك: أن كثيرًا من أصحاب أبي محمد من أتباع أبي الحسن الأشعري يصرحون بمخالفة السلف ـ في مثل مسألة الإيمان، ومسألة تأويل الآيات والأحاديث ـ يقولون: مذهب السلف: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وأما المتكلمون من أصحابنا، فمذهبهم كيت وكيت، وكذلك يقولون: مذهب السلف: أن هذه الآيات والأحاديث الواردة في الصفات لاتتأول، والمتكلمون يريدون تأويلها إما وجوبًا وإما جوازًا ويذكرون الخلاف بين السلف وبين أصحابهم المتكلمين، هذا منطوق ألسنتهم ومسطور كتبهم.
أفلا عاقل يعتبر، ومغرور يزدجر، أن السلف ثبت عنهم ذلك حتى بتصريح المخالف، ثم يحدث مقالة تخرج عنهم؟ أليس هذا صريحًا أن السلف كانوا ضالين عن التوحيد والتنزيه، وعلمه المتأخرون؟! وهذا فاسد بضرورة العلم الصحيح والدين المتين.
وأيضًا، فقد ينصر المتكلمون أقوال السلف تارة وأقوال المتكلمين تارة، كما يفعله غير واحد مثل أبي المعالي الجويني، وأبي حامد الغزالي، والرازي وغيرهم، ولازم المذهب الذي ينصرونه تارة أنه هو المعتمد، فلا يثبتون على دين واحد، وتغلب عليهم الشكوك وهذا عادة الله فيمن أعرض عن الكتاب والسنة.
وتارة يجعلون إخوانهم المتأخرين أحذق [أمهر وأعلم] وأعلم من السلف، ويقولون: طريقة السلف أسلم، وطريقة هؤلاء أعلم وأحكم، فيصفون إخوانهم بالفضيلة في العلم والبيان، والتحقيق والعرفان، والسلف بالنقص في ذلك والتقصير فيه، أو الخطأ والجهل، وغايتهم عندهم: أن يقيموا أعذارهم في التقصير والتفريط.
ولا ريب أن هذا شعبة من الرفض، فإنه وإن لم يكن تكفيرًا للسلف ـ كما يقوله من يقوله من الرافضة والخوارج ـ ولا تفسيقًا لهم ـ كما يقوله من يقوله من المعتزلة والزيدية وغيرهم ـ كان تجهيلاً لهم وتخطئة وتضليلاً، ونسبة لهم إلى الذنوب والمعاصي، وإن لم يكن فسقاً فزَعْمًا: أن أهل القرون المفضولة في الشريعة أعلم وأفضل من أهل القرون الفاضلة.
ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، أن خير قرون هذه الأمة ـ في الأعمال والأقوال، والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة أن خيرها ـ القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل. هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على عِلْم، كما قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه: من كان منكم مُسْتَنَّا فَلْيَسْتَنَّ بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، أبرّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وقال غيره: عليكم بآثار من سلف فإنهم جاؤوا بما يكفي وما يشفى، ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه.
هذا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شَرٌّ منه حتى تلقوا ربكم)، فكيف يحدث لنا زمان فيه الخير في أعظم المعلومات وهو معرفة الله تعالى ؟ هذا لا يكون أبدًا.
وما أحسن ما قال الشافعي ـ رحمه الله ـ في رسالته: هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا!
وأيضًا، فيقال لهؤلاء الجهمية الكلابية ـ كصاحب هذا الكلام أبي محمد وأمثاله: كيف تدعون طريقة السلف، وغاية ما عند السلف: أن يكونوا موافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فإن عامة ما عند السلف من العلم والإيمان، هو ما استفادوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد، الذي قال الله فيه:{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد:9]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد: 28،29]،
وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران:164]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى52 ،53].
وأبو محمد وأمثاله قد سلكوا مسلك الملاحدة، الذين يقولون: إن الرسول لم يبين الحق في باب التوحيد، ولا بين للناس ما هو الأمر عليه في نفسه، بل أظهر للناس خلاف الحق، والحق: إما كتمه وإما أنه كان غير عالم به.
فإن هؤلاء الملاحدة من المتفلسفة، ومن سلك سبيلهم من المخالفين لما جاء به الرسول في الأمور العلمية، كالتوحيد والمعاد وغير ذلك، يقولون: إن الرسول أحكم الأمور العملية المتعلقة بالأخلاق والسياسة المنزلية والمدنية، وأتى بشريعة عملية هي أفضل شرائع العالم، ويعترفون بأنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من ناموسه ولا أكمل منه، فإنهم رأوا حسن سياسته للعالم وما أقامه من سنن العدل، ومحاه من الظلم.
وأما الأمور العلمية التي أخبر بها ـ من صفات الرب وأسمائه وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر والجنة والنار ـ فلما رأوها تخالف ما هم عليه صاروا في الرسول فريقين:
فغلاتهم يقولون: إنه لم يكن يعرف هذه المعارف، وإنما كان كماله في الأمور العملية: العبادات والأخلاق، وأما الأمور العلمية، فالفلاسفة أعلم بها منه، بل ومن غيره من الأنبياء. وهؤلاء يقولون: إن عليًا كان فيلسوفًا، وأنه كان أعلم بالعلميات من الرسول، وأن هارون كان فيلسوفًا، وكان أعلم بالعلميات من موسى.
وكثير منهم يعظم فرعون، ويسمونه أفلاطون القبطي، ويدعون أن صاحب مدين الذي تزوج موسى ابنته ـ الذي يقول بعض الناس: إنه شعيب ـ يقول هؤلاء: إنه أفلاطون أستاذ أرسطو، ويقولون: إن أرسطو هو الخضر ـ إلى أمثال هذا الكلام الذي فيه من الجهل والضلال ما لا يعلمه إلا ذو الجلال.
أقل ما فيه جهلهم بتواريخ الأنبياء، فإن أرسطو باتفاقهم كان وزيرًا للإسكندر بن فيلبس المقدوني، الذي تؤرخ به اليهود والنصارى التاريخ الرومي، وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة .
وقد يظنون أن هذا هو: [ذو القرنين] المذكور في القرآن، وأن أرسطو كان وزيرًا لذي القرنين، المذكور في القرآن، وهذا جهل. فإن هذا الإسكندر بن فيلبس لم يصل إلى بلاد الترك، ولم يبن السَّدّ، وإنما وصل إلى بلاد الفرس.
وذو القرنين المذكور في القرآن وصل إلى شرق الأرض وغربها، وكان متقدمًا على هذا، يقال: إن اسمه الإسكندر بن دارا، وكان موحدًا مؤمنًا، وذاك مشركًا، كان يعبد هو وقومه الكواكب والأصنام، ويعانون السحر، كما كان أرسطو وقومه من اليونان مشركين يعبدون الأصنام، ويعانون السحر، ولهم في ذلك مصنفات، وأخبارهم مشهورة، وآثارهم ظاهرة بذلك، فأين هذا من هذا؟!
والمقصود هنا بيان ما يقوله هؤلاء الفلاسفة الباطنية فيما جاء به الرسول.
والفريق الثاني منهم، يقولون: إن الرسول كان يعلم الحق الثابت في نفس الأمر في التوحيد والمعاد، ويعرف أن الرب ليس له صفة ثبوتية، وأنه لا يرى ولا يتكلم، وأن الأفلاك قديمة أزلية لم تزل ولا تزال، وأن الأبدان لا تقوم، وأنه ليس لله ملائكة هم أحياء ناطقون ينزلون بالوحي من عنده ويصعدون إليه، ولكن يقول بما عليه هؤلاء الباطنية في الباطن، لكن ما كان يمكنه إظهار ذلك للعامة؛ لأن هذا إذا ظهر لم تقبله عقولهم وقلوبهم بل ينكرونه وينفرون منه، فأظهر لهم من التخييل والتمثيل ما ينتفعون به في دينهم، وإن كان في ذلك تلبيس عليهم وتجهيل لهم، واعتقادهم الأمر على خلاف ما هو عليه، لما في ذلك من المصلحة لهم.
ويجعلون أئمة الباطنية، كبني عبيد بن ميمون القدَّاح الذين ادعوا أنهم من ولد محمد ابن إسماعيل بن جعفر، ولم يكونوا من أولاده، بل كان جدهم يهوديًا ربيبيًا لمجوسي، وأظهروا التشيع. ولم يكونوا في الحقيقة على دين واحد من الشيعة لا الإمامية، ولا الزيدية، بل ولا الغالية الذين يعتقدون إلهية علي، أو نبوته، بل كانوا شرًا من هؤلاء كلهم.
ولهذا كثر تصانيف علماء المسلمين في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وكثر غزو المسلمين لهم. وقصصهم معروفة. وابن سينا وأهل بيته كانوا من أتباع هؤلاء على عهد حاكمهم المصري؛ ولهذا دخل ابن سينا في الفلسفة.
وهؤلاء يجعلون محمد بن إسماعيل هو الإمام المكتوم، وأنه نسخ شرع محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، ويقولون: إن هؤلاء الإسماعيلية كانوا أئمة معصومين، بل قد يقولون: إنهم أفضل من الأنبياء، وقد يقولون: إنهم آلهة يعبدون.
ولهذا أرسل الحاكم غلامه [هشتكير] الدرزي إلى وادي تيم الله بن ثعلبة بالشام، فأضل أهل تلك الناحية وبقاياه فيهم إلى اليوم يقولون بإلهية الحاكم وقد أخرجهم عن دين الإسلام، فلا يرون الصلوات الخمس، و لا صيام شهر رمضان، ولا حج البيت الحرام، ولا تحريم ما حرمه الله ورسوله من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والخمر وغير ذلك.
وهؤلاء يدعون المستجيب لهم أولاً إلى التشيع، والتزام ما توجبه الرافضة وتحريم ما يحرمونه، ثم بعد هذا ينقلونه درجة بعد درجة حتى ينقلونه في الآخر إلى الانسلاخ من الإسلام، وأن المقصود هو معرفة أسرارهم، وهو العلم الذي به تكمل النفس، كما تقوله الفلاسفة الملاحدة، فمن حصل له هذا العلم وصل إلى الغاية، وسقطت عنه العبادات التي تجب على العامة، كالصلوات الخمس، وصيام رمضان، وحج البيت، وحلت له المحرمات التي لا تحل لغيره.
فهؤلاء يجعلون الرسول صلى الله عليه وسلم ـ إذا عظموه وقالوا: كان كاملاً في العلم ـ من جنس رؤوسهم الملاحدة، وأنه كان يظهر للعامة خلاف ما يبطنه للخاصة. وقد بينا من فساد أقوالهم في غير هذا الموضع ما لا يناسبه هذا المقام.
فإن المقصود هنا أن هؤلاء النفاة للعلو وللصفات الخبرية، كصاحب اللمعة وأمثاله يقولون في الرسول من جنس قول هؤلاء: إن الذي أظهره ليس هو الحق الثابت في نفس الأمر؛ لأن ذلك ما كان يمكنه إظهاره للعامة، فإذا كانوا يقولون هذا في الرسول نفسه فكيف قولهم في أتباعه من سلف الأمة من الصحابة والتابعين.
ومن كان هذا أصل قوله في الرسول والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كان مخالفًا لهم لا موافقًا، لا سيما إذا أظهر النفي الذي كان الرسول وخواص أصحابه عنده يبطنونه ولا يظهرونه، فإنه يكون مخالفًا لهم أيضًا.
وهذا المسلك يراه عامة النفاة، كابن رشد الحفيد وغيره. وفي كلام أبي حامد الغزالي من هذا قطعة كبيرة. وابن عقيل وأمثاله قد يقولون أحيانًا هذا، لكن ابن عقيل الغالب عليه إذا خرج عن السنة أن يميل إلى التجهم والاعتزال في أول أمره، بخلاف آخر ما كان عليه، فقد خرج إلى السنة المحضة.
وأبو حامد يميل إلى الفلسفة، لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية؛ ولهذا رد عليه علماء المسلمين، حتى أخص أصحابه أبى بكر بن العربي، فإنه قال: شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر. وقد حكي عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كتبه، ورد عليه العلماء المذكورون قبل .