المصدر : مجموع فتاوى ابن تيمية
موضوع الفتوى : العقيدة
الكتاب : كتاب توحيد الألوهية

السؤال :

رسالة في التوسل والوسيلة

الجواب :

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له‏.‏ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، أرسله بين يدى الساعة بشيراً ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغى، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما وقلوبا غلفا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد فى الله حق جهاده، وعبد ربه حتى أتاه اليقين من ربه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما‏.‏
ففرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق أهل الجنة وطريق أهل النار، وبين أوليائه وأعدائه‏.‏ فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله‏.‏
وقد أرسله الله إلى الثقلين الجن والإنس، فعلى كل أحد أن يؤمن به وبما جاء به ويتبعه فى باطنه وظاهره‏.‏ والإيمان به ومتابعته هو سبيل الله، وهو دين الله، وهو عبادة الله، وهو طاعة الله، وهو طريق أولياء الله، وهو الوسيلة التى أمر الله بها عباده فى قوله تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 35‏]‏‏.‏ فابتغاء الوسيلة إلى الله إنما يكون لمن توسل إلى الله بالإيمان بمحمد واتباعه‏.‏
وهذا التوسل بالإيمان به وطاعته فرض على كل أحد، باطناً وظاهراً، فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته، فى مشهده ومغيبه، لا يسقط التوسل بالإيمان به وبطاعته عن أحد من الخلق فى حال من الأحوال بعد قيام الحجة عليه، ولا بعذر من الأعذار‏.‏ ولا طريق إلى كرامة الله ورحمته والنجاة من هوانه وعذابه إلا التوسل بالإيمان به وبطاعته‏.‏
وهو صلى الله عليه وسلم شفيع الخلائق صاحب المقام المحمود الذى يغبطه به الأولون والآخرون، فهو أعظم الشفعاء قدراً وأعلاهم جاها عند الله، وقد قال تعالى عن موسى‏:‏ ‏{وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 69‏]‏ ، وقال عن المسيح‏:‏‏{وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏45‏]‏‏.‏ ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم جاها من جميع الأنبياء والمرسلين، لكن شفاعته ودعاؤه إنما ينتفع به من شفع له الرسول ودعا له، فمن دعا له الرسول وشفع له توسل إلى الله بشفاعته ودعائه، كما كان أصحابه يتوسلون إلى الله بدعائه وشفاعته، وكما يتوسل الناس يوم القيامة إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ بدعائه وشفاعته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما‏.‏
ولفظ التوسل فى عرف الصحابة كانوا يستعملونه فى هذا المعنى‏.‏ والتوسل بدعائه وشفاعته ينفع مع الإيمان به، وأما بدون الإيمان به فالكفار والمنافقون لا تغنى عنهم شفاعة الشافعين فى الآخرة‏.‏
ولهذا نهى عن الاستغفار لعمه وأبيه وغيرهما من الكفار، ونهى عن الاستغفار للمنافقين وقيل له‏:‏ ‏{سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 6‏]‏، ولكن الكفار يتفاضلون فى الكفر كما يتفاضل أهل الإيمان فى الإيمان، قال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 37‏]‏‏.‏
فإذا كان فى الكفار من خف كفره بسبب نصرته ومعونته، فإنه تنفعه شفاعته فى تخفيف العذاب عنه لا فى إسقاط العذاب بالكلية، كما في صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب أنه قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، فهل نفعت أبا طالب بشىء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك ‏؟‏ قال ‏:‏‏(‏نعم هو فى ضحْضاح من نار، ولولا أنا لكان فى الدرْك الأسفل من النار‏)‏، وفى لفظ‏:‏ إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل نفعه ذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم، وجدته فى غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح‏)‏، وفيه عن أبى سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال‏:‏ ‏(‏لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار يبلغ كعْبيه يغلى منهما دماغه‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين من نار يغلى منهما دماغه‏)‏‏.‏
وكذلك ينفع دعاؤه لهم بألا يُعجل عليهم العذاب فى الدنيا كما كان صلى الله عليه وسلم يحكى نبياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يقول‏:‏ ‏(‏اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون‏)‏‏.‏ وروى أنه دعا بذلك أن اغفر لهم فلا تعجل عليهم العذاب فى الدنيا؛ قال تعالى‏:‏ ‏{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏‏.‏
وأيضا، فقد يدعو لبعض الكفار بأن يهديه الله أو يرزقه فيهديه أو يرزقه، كما دعا لأم أبى هريرة حتى هداها الله، وكما دعا لدوس فقال‏:‏ ‏(‏اللهم اهـد دوسـاً وائت بهم‏)‏، فهداهم الله، وكما روى أبو داود أنه استسقى لبعض المشركين لما طلبوا منه أن يستسقى لهم، فاستسقى لهم، وكان ذلك إحسانا منه إليهم يتألف به قلوبهم كما كان يتألفهم بغير ذلك‏.‏
وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاهاً عند الله، لا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته، لكن دعاء الأنبياء وشفاعتهم ليس بمنزلة الإيمان بهم وطاعتهم، فإن الإيمان بهم وطاعتهم يوجب سعادة الآخرة والنجاة من العذاب مطلقاً وعاماً، فكل من مات مؤمنا بالله ورسوله مطيعاً لله ورسوله كان من أهل السعادة قطعاً، ومن مات كافراً بما جاء به الرسول كان من أهل النار قطعاً‏.‏
وأما الشفاعة والدعاء فانتفاع العباد به موقوف على شروط وله موانع، فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر لا تنفعهم ـ ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاهاً ـ فلا شفيع أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم ثم الخليل إبراهيم، وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له، كما قال تعالى عنه‏:‏ ‏{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 41‏]‏، وقد كان صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأبى طالب اقتداء بإبراهيم وأراد بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏‏.‏
ثم ذكر الله عذر إبراهيم فقال‏:‏ ‏{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}‏ ‏[‏التوبة‏:‏‏:‏ 114، 115‏]‏، وثبت فى صحيح البخارى عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يلْقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم‏:‏ ألم أقل لك‏:‏ لا تعصنى ‏؟‏ فيقول له أبوه‏:‏ فاليـوم لا أعصيك‏.‏ فيقول إبراهيم‏:‏ يا رب، أنت وعدتنى ألا تُخْزنى يوم يُبْعثون، وأي خزْى أخْزى من أبى الأبعد ‏؟‏ فيقول الله عز وجل‏:‏ إنى حرمتُ الجنة على الكافرين، ثم يقال‏:‏ انظر ما تحت رجليك، فينظر فإذا هو بذيخ مُتلطخ ‏[‏الذيخ‏:‏ ذكر الضباع ، وأراد بالتلطخ‏:‏ التلطخ برجيعه أو بالطين‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 2 174‏]‏، فيؤخذ بقوائمه فيلقى فى النار‏)‏، فهذا لما مات مشركا لم ينفعه استغفار إبراهيم مع عظم جاهه وقدره، وقد قال تعالى للمؤمنين‏:‏ ‏{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4، 5‏]‏‏.‏ فقد أمر الله تعالى المؤمنين بأن يتأسوا بإبراهيم ومن اتبعه، إلا فى قول إبراهيم لأبيه‏:‏ ‏{لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}‏ فإن الله لا يغفر أن يشرك به‏.‏
وكذلك سيد الشفعاء محمد صلى الله عليه وسلم ، ففى صحيح مسلم عن أبى هريرة؛ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏استـأذنت ربـى أن أستغفر لأمـى فلم يأذن لــى، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لى‏)‏‏.‏ وفى رواية‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال‏:‏ ‏(‏استأذنتُ ربى أن أستغفر لأمى فلم يأذن لى، واستأذنته فى أن أزور قبرها فأذن لى، فزروا القبور، فإنها تُذكر الموت‏)‏‏.‏ وثبت عن أنس فى الصحيح أن رجلا قال ‏:‏يا رسول الله، أين أبى ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فى النار‏)‏، فلما قفى دعاه فقال ‏:‏‏(‏إن أبى وأباك فى النار‏)‏‏.‏ وثبت أيضاً فى الصحيح عن أبى هريرة‏:‏ لمــا أنزلت هذه الآية‏:‏‏{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 214‏]‏ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فعم وخص فقال‏:‏ ‏(‏يا بنى كعب ابن لؤى، انقذوا أنفسكم من النار‏.‏ يا بنى مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏ يا بنى عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏ يا بنى عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏ يا فاطمة، أنقذى نفسك من النار ، فإنى لا أملك لكم من الله شيئاً ، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها ‏[‏أى أصلكم فى الدنيا، ولا أُغنى عنكم من الله شيئاً، والبلال جمع بلل، وقيل‏:‏ هو كل ما بل الحلق من ماء أو لبن أو غيره، انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 1 351‏]‏‏)‏ ، وفى رواية عنه‏:‏ ‏(‏يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، فإنى لا أغنى عنكم من الله شيئاً‏.‏ يا بنى عبد المطلب، لا أغنى عنكم من الله شيئاً‏.‏ يا عباس بن عبد المطلب، لا أغنى عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئاً‏.‏ يا فاطمة بنت رسول الله، سلينى من مالى ما شئت ، لا أغنى عنك من الله شيئا‏)‏‏.‏ وعن عائشة لما نزلت‏:‏ ‏{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏214‏]‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئا‏.‏ سلونى من مالى ما شئتم‏)‏‏.‏
وعن أبى هريرة قال‏:‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً ذات يوم فذكر الغُلُول فعظمه وعظم أمره ثـم قـال‏:‏ ‏(‏لا أُلْفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير لهُ رُغاء ‏[‏الرغاء‏:‏ صوت الإبل‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 2 240‏]‏ يقول‏:‏ يا رسول الله، أغثنى‏.‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك‏.‏ لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته فرس له حمْحمة ‏[‏الحمحمة‏:‏ صوت الفرس دون الصهيل‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 1 436‏]‏ فيقول‏:‏ يا رسول الله، أغثنى‏.‏فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك‏.‏ لا ألفـين أحــدكم يجىء يــوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء ‏[‏الثغاء‏:‏ صياح الغنم‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 1 214‏]‏، فيقول‏:‏ يا رسول الله، أغثنى‏.‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك‏.‏ لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق ‏[‏أراد بالرقاع‏:‏ ما عليه من الحقوق المكتوبة فى الرقاع، وخفوقها‏:‏ حركتها‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 2251‏]‏‏.‏ فيقول‏:‏ يا رسول الله، أغثنى‏.‏ فأقول‏:‏لا أملك لك شيئا قد أبلغتك‏.‏لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته صامت ‏[‏صامت‏:‏ يعنى الذهب والفضة، خلاف الناطق وهو الحيوان‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 3 52‏]‏‏.‏ فيقول‏:‏ يا رسول الله، أغثنى‏.‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك ‏(‏أخرجاه فى الصحيحين ، وزاد مسلم‏:‏ ‏(‏لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح‏.‏ فيقول‏:‏ يا رسول الله، أغثنى، فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك‏)‏‏.‏ وفى البخارى عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ولا يأتى أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يُعار ‏[‏اليُعار‏:‏ صياح الشاة‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 5 297‏]‏‏.‏ فيقول‏:‏ يا محمد، فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئاً، قد بلغت‏.‏ ولا يأتى أحدكم ببعير يحمله على رقبته له رُغاء فيقول‏:‏ يا محمد، فأقول‏:‏ لا أملك لك شيئاً، قد بلغت‏)‏‏.‏ وقوله هنا صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا أملك لك من الله شيئا‏)‏ كـقول إبـراهيـم لأبيـه‏:‏ ‏{لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏‏.‏
وأما شفاعته ودعاؤه للمؤمنين فهى نافعة فى الدنيا والدين باتفاق المسلمين، وكذلك شفاعته للمؤمنين يوم القيامة فى زيادة الثواب ورفع الدرجات متفق عليها بين المسلمين‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن بعض أهل البدعة ينكرها‏.‏
وأما شفاعته لأهل الذنوب من أمته فمتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم، وأنكرها كثير من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والزيدية، وقال هؤلاء‏:‏ من يدخل النار لا يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها، وعند هؤلاء ما ثم إلا من يدخل الجنة فلا يدخل النار، ومن يدخل النار فلا يدخل الجنة، ولا يجتمع عندهم فى الشخص الواحد ثواب وعقاب‏.‏ وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأئمة كالأربعة وغيرهم، فيقرون بما تواترت به الأحاديث الصحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم أن الله يخرج من النار قوماً بعد أن يعذبهم الله ما شاء أن يعذبهم، يخرجهم بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويخرج آخرين بشفاعة غيره، ويخرج قوماً بلا شفاعة‏.‏
واحتج هؤلاء المنكرون للشفاعة بقوله تعالى‏:‏ ‏{وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 48‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏{وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 123‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 254‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يطاع}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏{فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 48‏]‏‏.‏
وجواب أهل السنة أن هذا يراد به شيئان‏:‏
أحدهما‏:‏ أنها لا تنفع المشركين، كما قال تعالى فى نعتهم‏:‏ ‏{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}‏ ‏[‏المدثر‏:‏42‏:‏ 48‏]‏، فهؤلاء نفى عنهم نفع شفاعة الشافعين لأنهم كانوا كفاراً‏.‏
والثانى‏:‏ أنه يراد بذلك نفى الشفاعة التى يثبتها أهل الشرك، ومن شابههم من أهل البدع، من أهل الكتاب والمسلمين الذين يظنون أن للخلق عند الله من القدر أن يشفعوا عنده بغير إذنه، كما يشفع الناس بعضهم عند بعض فيقبل المشفوع إليه شفاعة شافع لحاجته إليه رغبة ورهبة، وكما يعامل المخلوق المخلوق بالمعاوضة‏.‏
فالمشركون كانوا يتخذون من دون الله شفعاء من الملائكة والأنبياء والصالحين، ويصورون تماثيلهم فيستشفعون بها ويقولون‏:‏ هؤلاء خواص الله، فنحن نتوسل إلى الله بدعائهم وعبادتهم ليشفعوا لنا، كما يتوسل إلى الملوك بخواصّهم لكونهم أقرب إلى الملوك من غيرهم، فيشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك، وقد يشفع أحدهم عند الملك فيما لا يختاره فيحتاج إلى إجابة شفاعته رغبة ورهبة‏.‏
فأنكر الله هذه الشفاعة فقال تعالى‏:‏ ‏{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 26‏]‏، وقال عن الملائكة‏:‏ ‏{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏26‏:‏ 28‏]‏، وقال‏:‏ ‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22، 23‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 51‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }‏ ‏[‏الأنعام‏:‏94‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ َسْتَبْشِرُونَ}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 43‏:‏ 45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا َمْسًا يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}‏ ‏[‏طه‏:‏ 108، 109‏]‏، وقال صاحب يس‏:‏ ‏{وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}‏ ‏[‏يس‏:‏ 22 ـ 25‏]‏‏.‏
فهذه الشفاعة التى أثبتها المشركون للملائكة والأنبياء والصالحين حتى صوروا تماثيلهم وقالوا‏:‏ استشفاعنا بتماثيلهم استشفاع بهم، وكذلك قصدوا قبورهم وقالوا‏:‏ نحن نستشفع بهم بعد مماتهم ليشفعوا لنا إلى الله، وصوَّروا تماثيلهم فعبدوهم كذلك، وهذه الشفاعة أبطلها الله ورسوله وذم المشركين عليها وكفرهم بها‏.‏ قال الله تعالى عن قوم نوح‏:‏ ‏{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضلالا}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 23، 24‏]‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ هؤلاء قوم صالحون كانوا فى قوم نوح، فلما ماتوا عَكَفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، وهذا مشهور فى كتب التفسير والحديث وغيرها كالبخارى وغيره، وهذه أبطلها النبى صلى الله عليه وسلم وحسم مادتها وسد ذَرِيعتها، حتى لعن من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلى فيها، وإن كان المصلى فيها لا يستشفع بهم، ونهى عن الصلاة إلى القبور وأرسل على بن أبى طالب فأمره ألا يدع قبراً مُشْرفًا إلا سَوَّاه، ولا تمثالا إلا طَمَسَه ومَحَاه، ولعن المصورين‏.‏ وعن أبى الهياج الأسدى، قال لى على بن أبى طالب‏:‏ لأبعثك على ما بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته‏.‏ وفى لفظ‏:‏ ولا صورة إلا طمستها‏.‏ أخرجه مسلم‏.‏
فصــل
ولفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور‏.‏ يراد به أمران متفق عليهما بين المسلمين ‏:‏
أحدهما‏:‏ هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته‏.‏
والثاني‏:‏ دعاؤه وشفاعته، وهذا أيضًا نافع يتوسل به من دعا له وشفع فيه باتفاق المسلمين‏.‏ ومن أنكر التوسل به بأحد هذين المعنيين فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدًا‏.‏ ولكن التوسل بالإيمان به وبطاعته هو أصل الدين، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام للخاصة والعامة، فمن أنكر هذا المعنى فكفره ظاهر للخاصة والعامة‏.‏
وأما دعاؤه وشفاعته وانتفاع المسلمين بذلك فمن أنكره فهو أيضًا كافر، لكن هذا أخفى من الأول، فمن أنكره عن جهل عُرِّف ذلك، فإن أصر على إنكاره فهو مرتد‏.‏
أما دعاؤه وشفاعته فى الدنيا فلم ينكره أحد من أهل القبلة‏.‏
وأما الشفاعة يوم القيامة فمذهب أهل السنة والجماعة ـ وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم ـ أن له شفاعات يوم القيامة خاصة وعامة، وأنه يشفع فيمن يأذن الله أن يشفع فيه من أمته من أهل الكبائر‏.‏ ولا ينتفع بشفاعته إلا أهل التوحيد المؤمنون، دون أهل الشرك، ولو كان المشرك محبًا له معظمًا له لم تنقذه شفاعته من النار، وإنما ينجيه من النار التوحيد والإيمان به، ولهذا لما كان أبو طالب وغيره يحبونه ولم يُقِرُّوا بالتوحيد الذى جاء به لم يمكن أن يخرجوا من النار بشفاعته ولا بغيرها‏.‏
وفى صحيح البخارى عن أبى هريرة أنه قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أى الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة من قال‏:‏ لا إله إلا الله خالصًا من قلبه‏)‏‏.‏ وعنه فى صحيح مسلم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لكل نبى دعوة مستجابة، فَتَعَجَّل كل نبى دعوته، وإنى اختَبَأْتُ دعوتى شفاعة يوم القيامة، فهى نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتى لا يشرك بالله شيئا‏)‏، وفى السنن عن عوف ابن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أتانى آت من عند ربى فخيرنى بين أن يُدْخِل نصف أمتى الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهى لمن مات لا يشرك بالله شيئًا‏)‏، وفى لفظ قال‏:‏ ‏(‏ومن لقى الله لا يشرك به شيئًا فهو فى شفاعتى‏)‏‏.‏
وهذا الأصل ـ وهو التوحيد ـ هو أصل الدين الذى لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينًا غيره، وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏، وقد ذكر الله عز وجل عن كل من الرسل أنه افتتح دعوته بأن قال لقومه‏:‏ ‏{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏32‏]‏‏.‏
وفى المسند عن ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏بعثت بالسَّيف بين يَدَى الساعة حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقى تحت ظل رُمحى، وجعل الذل والصغار على من خالف أمرى، ومن تشبه بقوم فهو منهم‏)‏‏.‏
والمشركون من قريش وغيرهم ـ الذين أخبر القرآن بشركهم واستحل النبى صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم وسبى حريمهم وأوجب لهم النار ـ كانوا مقرين بأن الله وحده خلق السموات والأرض كما قال‏:‏ ‏{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}‏ ‏[‏لقمان‏:‏25‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 61‏]‏، وقال‏:‏ ‏{قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ }‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 84‏:‏ 91‏]‏‏.‏
وكان المشركون الذين جعلوا معه آلهة أخرى مقرين بأن آلهتهم مخلوقة، ولكنهم كانوا يتخذونهم شفعاء ويتقربون بعبادتهم إليه كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 1 ـ 3‏]‏، وكانوا يقولون فى تلبيتهم‏:‏ لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُو}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 28‏:‏ 32‏]‏‏.‏
بين ـ سبحانه ـ بالمثـل الذى ضربه لهـم أنه لا ينبغـى أن يجعـل مملوكه شـريكه فقال‏:‏ ‏{هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 28‏]‏ يخاف أحدكم مملوكه كما يخاف بعضكم بعضا، فإذا كان أحدكم لا يرضى أن يكون مملوكه شريكه فكيف ترضونه لأنفسكم ‏؟‏
وهذا كما كانوا يقولون‏:‏ له بنات، فقال تعالى‏:‏ ‏{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 62‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ َيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 58‏:‏ 60‏]‏‏.‏
والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم نصفان ‏:‏
قوم نوح، وقوم إبراهيم‏.‏ فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم‏.‏
وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر‏.‏ وكل من هؤلاء يعبدون الجن، فإن الشياطين قد تخاطبهم وتعينهم على أشياء، وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة وإن كانوا فى الحقيقة إنما يعبدون الجن، فإن الجن هم الذين يعينونهم ويرضون بشركهم، قال تعالى‏:‏ ‏{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 40- 41‏]‏‏.‏
والملائكة لا تعينهم على الشرك لا فى المحيا ولا فى الممات ولا يرضون بذلك، ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم فى صور الآدميين فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم‏:‏ أنا إبراهيم، أنا المسيح، أنا محمد، أنا الخضر، أنا أبو بكر، أنا عمر، أنا عثمان، أنا على، أنا الشيخ فلان‏.‏ وقد يقول بعضهم عن بعض‏:‏ هذا هو النبى فلان أو هذا هو الخضر ويكون أولئكَ كلهم جِنًا يشهد بعضهم لبعض‏.‏ والجن كالإنس فمنهم الكافر ومنهم الفاسق ومنهم العاصى وفيهم العابد الجاهل، فمنهم من يحب شيخا فيتزيّا ‏[‏فيتزيّا‏:‏ يظهر فى هيئته‏.‏ انظر‏:‏ القاموس المحيط، مادة ‏(‏زىى‏)‏‏]‏‏.‏ فى صورته ويقول‏:‏ أنا فلان‏.‏ ويكون ذلك فى برية ومكان قفر‏[‏مكان قفر‏:‏ الخلاء من الأرض، لا نبات فيه ولا ماء‏.‏ انظر‏:‏ لسان العرب، مادة ‏[‏قفر‏]‏‏]‏، فيطعم ذلك الشخص طعامًا ويسقيه شرابًا أو يدله على الطريق أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة، فيظن ذلك الرجل أن نفس الشيخ الميت أو الحى فعل ذلك، وقد يقول‏:‏ هذا سر الشيخ وهذه رقيقته وهذه حقيقته أو هذا ملك جاء على صورته، وإنما يكون ذلك جنيا، فإن الملائكة لا تعين على الشرك والإفك والإثم والعدوان‏.‏
وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56، 57‏]‏، قال طائفة من السلف‏:‏ كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالعزير والمسيح، فبين الله تعالى أن الملائكة والأنبياء عباد الله، كما أن الذين يعبدونهم عباد الله، وبين أنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه كما يفعل سائر عباده الصالحين‏.‏
والمشركون من هؤلاء قد يقولون‏:‏ إنا نستشفع بهم أى نطلب من الملائكة والأنبياء أن يشفعوا، فإذا أتينا قبر أحدهم طلبنا منه أن يشفع لنا، فإذا صورنا تمثاله ـ والتماثيل إما مجسدة وإما تماثيل مصورة كما يصورها النصارى فى كنائسهم ـ قالوا‏:‏ فمقصودنا بهذه التماثيل تذكر أصحابها وسيرهم، ونحن نخاطب هذه التماثيل ومقصودنا خطاب أصحابها ليشفعوا لنا إلى الله‏.‏ فيقول أحدهم‏:‏ يا سيدى فلان، أو يا سيدى جرجس، أو بطرس، أو يا ستى الحنونة مريم، أو يا سيدى الخليل، أو موسى بن عمران أو غير ذلك، اشفع لى إلى ربك‏.‏
وقد يخاطبون الميت عند قبره‏:‏ سل لى ربك‏.‏ أو يخاطبون الحى وهو غائب كما يخاطبونه لو كان حاضرًا حيا، وينشدون قصائد يقول أحدهم فيها‏:‏ يا سيدى فلان ‏!‏ أنا فى حسبك، أنا فى جوارك، اشفع لى إلى الله، سل الله لنا أن ينصرنا على عدونا، سل الله أن يكشف عنا هذه الشدة، أشكو إليك كذا، وكذا، فسل الله أن يكشف هذه الكربة‏.‏ أو يقول أحدهم‏:‏ سل الله أن يغفر لى‏.‏
ومنهـم من يتـأول قـولـه تعالــى‏:‏ ‏{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏، ويقولون‏:‏ إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة، ويخالفون بذلك إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر المسلمين، فإن أحدًا منهم لم يطلب من النبى صلى الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له ولا سأله شيئًا، ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين فى كتبهم، وإنما ذكر ذلك من ذكره من متأخرى الفقهاء، وحكوا حكاية مكذوبة على مالك ـ رضى الله عنه ـ سيأتى ذكرها وبسط الكلام علىها ـ إن شاء الله تعالى‏.‏
فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وفى مغيبهم، وخطاب تماثيلهم، هو من أعظم أنواع الشرك الموجود فى المشركين من غير أهل الكتاب، وفى مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به الله تعالـى‏.‏ قـال الله تعالـى‏:‏ ‏{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏‏.‏
فإن دعاء الملائكة والأنبياء بعد موتهم، وفى مغيبهم وسؤالهم والاستغاثة بهم والاستشفاع بهم فى هذه الحال، ونصب تماثيلهم ـ بمعنى طلب الشفاعة منهم ـ هو من الدين الذى لم يشرعه الله، ولا ابتعث به رسولا، ولا أنزل به كتاباً، وليس هو واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمين، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين، وإن كان ذلك مما يفعله كثير من الناس ممن له عبادة وزهد، ويذكرون فيه حكايات ومنامات، فهذا كله من الشيطان‏.‏
وفيهم من ينظم القصائد فى دعاء الميت، والاستشفاع به، والاستغاثة، أو يذكر ذلك فى ضمن مديح الأنبياء والصالحين، فهذا كله ليس بمشروع، ولا واجب، ولا مستحب باتفاق أئمة المسلمين، ومن تَعَبَّدَ بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة، وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع، بدعة سيئة لا بدعة حسنة باتفاق أئمة الدين، فإن الله لا يُعبد إلا بما هو واجب أو مستحب‏.‏
وكثير من الناس يذكرون فى هذه الأنواع من الشرك منافع ومصالح، ويحتجون عليها بحجج من جهة الرأى أو الذوق، أو من جهة التقليد والمنامات ونحو ذلك‏.‏
وجواب هؤلاء من طريقين‏:‏ أحدهما‏:‏ الاحتجاج بالنص والإجماع‏.‏
والثانى‏:‏ القياس والذوق والاعتبار ببيان ما فى ذلك من الفساد، فإن فساد ذلك راجح على ما يُظن فيه من المصلحة‏.‏
أما الأول فيقال‏:‏ قد علم بالاضطرار والتواتر من دين الإسلام وبإجماع سلف الأمة وأئمتها أن ذلك ليس بواجب ولا مستحب‏.‏
وعلِمَ أنه لم يكن النبى صلى الله عليه وسلم بل ولا أحد من الأنبياء قبله، شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ولا يستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم ولا فى مغيبهم، فلا يقول أحد‏:‏ يا ملائكة الله، اشفعوا لى عند الله، سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا‏.‏
وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين‏:‏ يا نبى الله، يا رسول الله، ادع الله لى، سل الله لى، استغفر الله لى، سل الله أن يغفر لى أو يهدينى أو ينصرنى أو يعافينى، ولا يقول‏:‏ أشكو إليك ذنوبى أو نقص رزقى أو تسلط العدو على، أو أشكو إليك فلانا الذى ظلمنى، ولا يقول‏:‏ أنا نزيلك، أنا ضيفك، أنا جارك، أو أنت تجير من يستجير، أو أنت خير معاذ يستعاذ به‏.‏
ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور، ولا يكتب أحد محضرًا أنه استجار بفلان ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر، ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، كما يفعله النصارى فى كنائسهم، وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين أو فى مغيبهم، فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام وبالنقل المتواتر وبإجماع المسلمين؛ أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يشرع هذا لأمته‏.‏
وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئا من ذلك، بل أهل الكتاب ليس عندهم عن الأنبياء نقل بذلك، كما أن المسلمين ليس عندهم عن نبيهم نقل بذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحاب نبيهم والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة، لا فى مناسك الحج ولا غيرها، أنه يستحب لأحد أن يسأل النبى صلى الله عليه وسلم عند قبره أن يشفع له أو يدعو لأمته أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين‏.‏
وكان أصحابه يبتلون بأنواع من البلاء بعد موته، فتارة بالجَدْب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصى، ولم يكن أحد منهم يأتى إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا قبر الخليل ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول‏:‏ نشكو إليك جدب الزمان أو قوة العدو أو كثرة الذنوب، ولا يقول‏:‏ سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم، بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التى لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين‏.‏
وكل بدعة ليست واجبة ولا مستحبة فهى بدعة سيئة، وهى ضلالة باتفاق المسلمين، ومن قال فى بعض البدع‏:‏ إنها بدعة حسنة، فإنما ذلك إذا قام دليل شرعى أنها مستحبة، فأما ما ليس بمستحب ولا واجب، فلا يقول أحد من المسلمين‏:‏ إنها من الحسنات التى يتقرب بها إلى الله‏.‏
ومن تقرب إلى الله بما ليس من الحسنات المأمور بها أمرَ إيجاب ولا استحباب فهو ضال متبع للشيطان، وسبيله من سبيل الشيطان، كما قال عبد الله بن مسعود‏:‏ خَطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا وخط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال‏:‏ ‏(‏هذا سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه‏)‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏‏.‏
فهذا أصل جامع يجب على كل من آمن بالله ورسوله أن يتبعه، ولا يخالف السنة المعلومة، وسبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، باتباع من خالف السنة والإجماع القديم، لا سيما وليس معه فى بدعته إمام من أئمة المسلمين، ولا مجتهد يعتمد على قوله فى الدين، ولا من يعتبر قوله فى مسائل الإجماع والنزاع، فلا ينخرم الإجماع بمخالفته، ولا يتوقف الإجماع على موافقته‏.‏
ولو قدر أنه نازع فى ذلك عالم مجتهد لكان مخصومًا بما عليه السنة المتواترة وباتفاق الأئمة قبله، فكيف إذا كان المنازع ليس من المجتهدين ولا معه دليل شرعى، وإنما اتبع من تكلم فى الدين بلا علم، و ‏{يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 8‏]‏‏.‏ بل إن النبى صلى الله عليه وسلم مع كونه لم يشرع هذا فليس هو واجبًا ولا مستحبًا، فإنه قد حرَّمَ ذلك وحرَّمَ ما يفضى إليه كما حرَّمَ اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد‏.‏ ففى صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ـ قبل أن يموت بخمس ـ‏:‏ ‏(‏إن من كانوا قبلكـم كانوا يتخذون القبـور مسـاجد، ألا فلا تتخـذوا القبـور مسـاجد، فإنى أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏ وفى الصحيحين عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ـ قبل موته ـ‏:‏ ‏(‏لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ يحذِّر ما فعلوا، قالت عائشة‏:‏ ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا‏.‏
واتخاذ المكان مسجدًا، هو أن يتخذ للصلوات الخمس، وغيرها كما تبنى المساجد لذلك، والمكان المتخذ مسجدًا إنما يقصد فيه عبادة الله ودعاؤه لا دعاء المخلوقين‏.‏
فحرم صلى الله عليه وسلم أن تُتَّخَذ قبورهم مساجد بقصد الصلوات فيها كما تقصد المساجد، وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده؛ لأن ذلك ذريعة إلى أن يقصدوا المسجد لأجل صاحب القبر ودعائه والدعاء به والدعاء عنده، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ هذا المكان لعبادة الله وحده لئلا يتخذ ذريعة إلى الشرك بالله‏.‏
والفعل إذا كان يفضى إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة ينهى عنه، كما نهى عن الصلاة فى الأوقات الثلاثة لما فى ذلك من المفسدة الراجحة، وهو التشبه بالمشركين الذى يفضى إلى الشرك‏.‏ وليس فى قصد الصلاة فى تلك الأوقات مصلحة راجحة لإمكان التطوع فى غير ذلك من الأوقات‏.‏
ولهذا تنازع العلماء فى ذوات الأسباب فسوغها كثير منهم فى هذه الأوقات، وهو أظهر قولى العلماء؛ لأن النهى إذا كان لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه فى هذه الأوقات ويفوت إذا لم يفعل فيها فتفوت مصلحتها، فأبيحت لما فيها من المصلحة الراجحة، بخلاف ما لا سبب له فإنه يمكن فعله فى غير هذا الوقت فلا تفوت بالنهى عنه مصلحة راجحة، وفيه مفسدة توجب النهى عنه‏.‏
فإذا كان نهيه عن الصلاة فى هذه الأوقات لسد ذريعة الشرك لئلا يفضى ذلك إلى السجود للشمس ودعائها وسؤالها ـ كما يفعله أهل دعوة الشمس والقمر والكواكب الذين يدعونها ويسألونها ـ كان معلومًا أن دعوة الشمس والسجود لها هو محرم فى نفسه، أعظم تحريمًا من الصلاة التى نهى عنها لئلا يفضى إلى دعاء الكواكب‏.‏
كذلك لما نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد ـ فنهى عن قصدها للصلاة عندها لئلا يفضى ذلك إلى دعائهم والسجود لهم ـ كان دعاؤهم والسجود لهم أعظم تحريما من اتخاذ قبورهم مساجد‏.‏
ولهذا؛ كانت زيارة قبور المسلمين على وجهين‏:‏ زيارة شرعية، وزيارة بدعية‏.‏
فالزيارة الشرعية أن يكون مقصود الزائر الدعاء للميت، كما يقصد بالصلاة على جنازته الدعاء له‏.‏ فالقيام على قبره من جنس الصلاة عليه، قال الله تعالى فى المنافقين‏:‏ ‏{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏، فنهى نبيه عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم؛ لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون‏.‏ فلما نهى عن هذا وهذا لأجل هذه العلة وهى الكفر، دل ذلك على انتفاء هذا النهى عند انتفاء هذه العلة‏.‏ ودل تخصيصهم بالنهى على أن غيرهم يُصلى عليه ويُقام على قبره؛ إذ لو كان هذا غير مشروع فى حق أحد لم يخصوا بالنهى ولم يعلل ذلك بكفرهم؛ ولهذا كانت الصلاة على الموتى من المؤمنين والقيام على قبورهم من السنة المتواترة، فكان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى على موتى المسلمين وشرع ذلك لأمته، وكان إذا دفن الرجل من أمته يقوم على قبره ويقول‏:‏ ‏(‏سلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل‏)‏‏.‏ رواه أبو داود وغيره‏.
وكان يزور قبور أهل البقيع والشهداء بأحُدٍ، ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم‏:‏ ‏(‏السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون‏)‏، ‏(‏ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين‏)‏، ‏(‏نسأل الله لنا ولكم العافية‏)‏، ‏(‏اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم‏)‏‏.‏ وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال‏:‏ ‏(‏السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون‏)‏‏.‏ والأحاديث فى ذلك صحيحة معروفة‏.‏ فهذه الزيارة لقبور المؤمنين مقصودها الدعاء لهم‏.‏
وهذه غير الزيارة المشتركة التي تجوز فى قبور الكفار كما ثبت فى صحيح مسلم وأبى داود والنسائى وابن ماجه عن أبى هريرة أنه قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، ثم قال‏:‏ ‏(‏استأذنت ربي فى أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فاستأذنته أن أزور قبرها فأذن لى، فزوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة‏)‏ فهذه الزيارة التي تنفع فى تذكير الموت تشرع ولو كان المقبور كافرًا، بخلاف الزيارة التي يقصد بها الدعاء للميت فتلك لا تشرع إلا فى حق المؤمنين‏.‏
وأما الزيارة البدعية فهى التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحـوائج، أو يطلب منـه الدعـاء والشفاعة، أو يقصـد الدعـاء عنـد قبره لظن القاصـد أن ذلك أجوب للدعاء، فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبى صلى الله عليه وسلم ولا فعلها الصحابة لا عند قبر النبى صلى الله عليه وسلم ولا عند غيره، وهى من جنس الشرك وأسباب الشرك‏.‏
ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم، مثل أن يتخذ قبورهم مساجد، لكان ذلك محرمًا منهيًا عنه، ولكان صاحبه متعرضًا لغضب الله ولعنته، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏قَاتَل الله اليَهُودَ والنَّصَارى اتخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهم مَسَاجِدَ‏)‏ يُحَذِّر ما صنعوا‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إن من كانَ قَبْلكم كَانُوا يَتَّخِذُونَ القُبُورَ مَسَاجِدَ ألا فَلا تَتخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّى أنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ‏)‏‏.‏
فإذا كان هذا محرما، وهو سبب لسخط الرب ولعنته، فكيف بمن يقصد دعاء الميت والدعاء عنده وبه، واعتقد أن ذلك من أسباب إجابة الدعوات، ونيل الطلبات وقضاء الحاجات ‏؟‏‏!‏ وهذا كان أول أسباب الشرك فى قوم نوح وعبادة الأوثان فى الناس، قال ابن عباس‏:‏ كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم ظهر الشرك بسبب تعظيم قبور صالحيهم‏.‏
وقد استفاض عن ابن عباس وغيره فى صحيح البخارى وفى كتب التفسير وقصص الأنبياء فى قوله تعالى‏:‏ ‏{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 23‏]‏ أن هؤلاء كانوا قومًا صالحين فى قوم نوح، فلما ماتوا عَكَفُوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، قال ابن عباس‏:‏ ثم صارت هذه الأوثان فى قبائل العرب‏.‏
وقد أحدث قوم من ملاحدة الفلاسفة الدهرية للشرك شيئًا آخر ذكروه فى زيارة القبور كما ذكر ذلك ابن سينا ومن أخذ عنه كصاحب الكتب المضنون بها وغيره، ذكروا معنى الشفاعة على أصلهم، فإنهم لا يقرون بأن الله خلق السموات والأرض فى ستة أيام، ولا أنه يعلم الجزئيات، ويسمع أصوات عباده، ويجيب دعاءهم‏.‏
فشفاعة الأنبياء والصالحين على أصلهم ليسـت كمـا يعرفه أهل الإيمـان من أنها دعـاء يدعو به الرجل الصالح فيستجيب الله دعاءه، كما أن ما يكون من إنزال المطر باستسقائهم ليس سببه عندهم إجابة دعائهم‏.‏
بل هم يزعمون أن المؤثر فى حوادث العالم هو قوى النفس أو الحركات الفلكية أو القوى الطبيعية، فيقولون‏:‏ إن الإنسان إذا أحب رجلا صالحا قد مات، لا سيما إن زار قبره، فإنه يحصل لروحه اتصال بروح ذلك الميت فيما يفيض على تلك الروح المفارقة من العقل الفعال عندهم أو النفس الفلكية، يفيض على هذه الروح الزائرة المستشفعة من غير أن يعلم الله بشىء من ذلك ـ بل وقد لا تعلم الروح المستشفع بها بذلك ـ ومثلوا ذلك بالشمس إذا قابلها مرآة فإنه يفيض على المرآة من شعاع الشمس، ثم إذا قابل المرآة مرآة أخرى فاض عليها من تلك المرآة، وإن قابل تلك المرآة حائط أو ماء فاض عليه من شعاع تلك المرآة، فهكذا الشفاعة عندهم، وعلى هذا الوجه ينتفع الزائر عندهم‏.‏ وفى هذا القول من أنواع الكفر ما لا يخفى على من تدبره‏.‏
ولا ريـب أن الأوثان يحصـل عندهـا من الشـياطين وخطابهم وتصـرفهم مـا هو من أسباب ضلال بنى آدم، وجعل القبور أوثانا هو أول الشرك؛ ولهذا يحصل عند القبور لبعض الناس من خطاب يسمعه وشخص يراه وتصرف عجيب؛ ما يظن أنه من الميت وقد يكون من الجن والشياطين، مثل أن يرى القبر قد انشق وخرج منه الميت وكلمه وعانقه، وهذا يرى عند قبور الأنبياء وغيرهم، وإنما هو شيطان، فإن الشيطان يتصور بصور الإنس ويدعى أحدهم أنه النبى فلان أو الشيخ فلان ويكون كاذباً فى ذلك‏.‏
وفى هذا الباب من الوقائع ما يضيق هذا الموضع عن ذكره، وهى كثيرة جداً، والجاهل يظن أن ذلك الذى رآه قد خرج من القبر وعانقه أو كلمه هو المقبور أو النبى أو الصالح وغيرهما، والمؤمن العظيم يعلم أنه شيطان ويتبين ذلك بأمور‏:‏
أحدها‏:‏ أن يقرأ آية الكرسى بصدق، فإذا قرأها تغيب ذلك الشخص أو ساخ فى الأرض أو احتجب، ولو كان رجلا صالحاً أو ملكا أو جنياً مؤمنا لم تضره آية الكرسى وإنما تضر الشياطين، كما ثبت فى الصحيح من حديث أبى هريرة لما قال له الجنى‏:‏ اقرأ آية الكرسى إذا أويت إلى فراشك فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح‏.‏ فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صَدَقَك وهو كَذُوب‏)‏‏.‏
ومنها‏:‏ أن يستعيذ بالله من الشياطين‏.‏
ومنها‏:‏ أن يستعيذ بالعوذ الشرعية، فإن الشياطين كانت تعرض للأنبياء فى حياتهم وتريد أن تؤذيهم وتفسد عبادتهم، كما جاءت الجن إلى النبى صلى الله عليه وسلم بشعلة من النار، تريد أن تحرقه، فأتاه جبريل بالعوذة المعروفة التي تضمنها الحديث المروى عن أبى التَّيَّاح أنه قال‏:‏ سأل رجل عبد الرحمن بن حُبَيْش، وكان شيخاً كبيراً قد أدرك النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كادته الشياطين ‏؟‏ قال‏:‏ تحدَّرت عليه من الشِّعاب والأوْدية، وفيهم شيطان معه شعلة من نار يريد أن يحرق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ فرعب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه جبريل عليه السلام فقال‏:‏ ‏(‏يا محمد، قل، قال‏:‏ ما أقول ‏؟‏ قال‏:‏ قل‏:‏ أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما يخرج من الأرض ومن شر ما ينزل فيها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق يطرق، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن‏)‏ قال‏:‏ فطفئت نارهم وهزمهم الله عز وجل‏.‏
وثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة أنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن عفريتًا من الجن جاء يفتك بى البارحة ليقطع علىَّ صلاتى، فأمكننى الله ـ عـز وجـل ـ منه فَذَعَتُّه ‏[‏أى خنقته‏.‏ انظر‏:‏ النهاية فى غريب الحديث 2160‏]‏ فأردت أن آخذه فأربطه إلى سارية من المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه، ثم ذكرت قول سليمان عليه السلام‏:‏ ‏{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي}‏ ‏[‏ص‏:‏ 35‏]‏، فرده الله تعالى خاسئاً‏)‏‏.‏
وعن عائشة‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى، فأتاه الشيطان فأخذه صلى الله عليه وسلم فصرعه فخنقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حتى وجدت بَرْدَ لسانه على يدى، ولولا دعوة سليمان لأصبح موثقًا حتى يراه الناس‏)‏ أخرجه النسائى، وإسناده على شرط البخارى كما ذكر ذلك أبو عبد الله المقدسى فى مختاره الذى هو خير من صحيح الحاكم‏.‏ وعن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى صلاة الصبح وهو خلفه، فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ من صلاته قال‏:‏ ‏(‏لو رأيتمونى وإبليس، فأهويت بيدى فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعَابِه بين إصبعى هاتين ـ الإبهام والتى تليها ـ ولولا دعوة أخى سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سوارى المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع ألا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل‏)‏ رواه الإمام أحمد فى مسنده وأبو داود فى سننه‏.‏
وفى صحيح مسلم عن أبى الدرداء أنه قال‏:‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى فسمعناه يقول‏:‏ ‏(‏أعوذ بالله منك‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏ألعنك بلعنة الله‏)‏ ثلاثا وبسط يده كأنه يتناول شيئاً، فلما فرغ من صلاته قلنا‏:‏ ‏(‏يا رسول الله، سمعناك تقول شيئاً فى الصلاة لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله فى وجهى، فقلت‏:‏ أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت‏:‏ ألعنك بلعنة الله التامة، فاستأخر، ثم أردت أن آخذه ولولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان المدينة‏)‏‏.‏
فإذا كانت الشياطين تأتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لتؤذيهم وتفسد عبادتهم، فيدفعهم الله تعالى بما يؤيد به الأنبياء من الدعاء والذكر والعبادة ومن الجهاد باليد، فكيف من هو دون الأنبياء ‏؟‏
فالنبى صلى الله عليه وسلم قَمَعَ شياطين الإنس والجن بما أيده الله تعالى من أنواع العلوم والأعمال، ومن أعظمها الصلاة والجهاد‏.‏ وأكثر أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم فى الصلاة والجهاد، فمن كان متبعاً للأنبياء نصره الله ـ سبحانه ـ بما نصر به الأنبياء‏.‏
وأما من ابتدع دينا لم يشرعوه، فترك ما أمروا به من عبادة الله وحده لا شريك له واتباع نبيه فيما شرعه لأمته، وابتدع الغلو فى الأنبياء والصالحين والشرك بهم، فإن هذا تتلعَّب به الشياطين، قال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 99، 100‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏‏.‏
ومنها‏:‏ أن يدعو الرائى بذلك ربه تبارك وتعالى ليبين له الحال‏.‏
ومنهـا‏:‏ أن يقـول لـذلك الشخـص‏:‏ أأنـت فلان ‏؟‏ ويقسـم عليه بالأقسـام المعظمة، ويقرأ عليه قوارع القرآن إلى غير ذلك من الأسباب التي تضر الشياطين‏.‏
وهذا كما أن كثيرا من العباد يرى الكعبة تطوف به، ويرى عرشاً عظيماً وعليه صورة عظيمة، ويرى أشخاصاً تصعد وتنزل فيظنها الملائكة ويظن أن تلك الصورة هى الله ـ تعالى وتقدس ـ ويكون ذلك شيطانا‏.‏
وقد جرت هذه القصة لغير واحد من الناس، فمنهم من عصمه الله وعرف أنه الشيطان كالشيخ عبد القادر فى حكايته المشهورة حيث قال‏:‏ كنت مرة فى العبادة فرأيت عرشاً عظيماً وعليه نور، فقال لى‏:‏ يا عبد القادر، أنا ربك وقد حللت لك ما حرمت على غيرك‏.‏ قال‏:‏ فقلت له‏:‏ أنت الله الذى لا إله إلا هو ‏؟‏ اخسأ يا عدو الله‏.‏ قال‏:‏ فتمزق ذلك النور وصار ظلمة، وقال‏:‏ يا عبد القادر، نجوت منى بفقهك فى دينك وعلمك وبمنازلاتك فى أحوالك‏.‏ لقد فتنت بهذه القصة سبعين رجلاً‏.‏ فقيل له‏:‏ كيف علمت أنه الشيطان ‏؟‏ قال‏:‏ بقوله لى‏:‏ ‏(‏حللت لك ما حرمت على غيرك‏)‏، وقد علمت أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا تنسخ ولا تبدل، ولأنه قال‏:‏ أنا ربك، ولم يقدر أن يقول‏:‏ أنا الله الذى لا إله إلا أنا‏.‏
ومن هؤلاء من اعتقد المرئى هو الله، وصار هو وأصحابه يعتقدون أنهم يرون الله تعالى فى اليقظة ومستندهم ما شاهدوه، وهم صادقون فيما يخبرون به، ولكن لم يعلموا أن ذلك هو الشيطان‏.‏
وهذا قد وقع كثيراً لطوائف من جهال العباد، يظن أحدهم أنه يرى الله تعالى بعينه فى الدنيا؛ لأن كثيراً منهم رأى ما ظن أنه الله وإنما هو شيطان‏.‏ وكثير منهم رأى من ظن أنه نبى أو رجل صالح أو الخضر وكان شيطاناً‏.‏ وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من رآنى فى المنام فقد رآنى حقاً فإن الشيطان لا يتمثل فى صورتى‏)‏‏.‏ فهذا فى رؤية المنام؛ لأن الرؤية فى المنام تكون حقا وتكون من الشيطان فمنعه الله أن يتمثل به فى المنام، وأما فى اليقظة فلا يراه أحد بعينه فى الدنيا‏.‏
فمن ظن أن المرئى هو الميت فإنما أتى من جهله، ولهذا لم يقع مثل هذا لأحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان‏.‏
وبعض من رأى هذا ـ أو صدق من قال‏:‏ إنه رآه ـ اعتقد أن الشخص الواحد يكون بمكانين فى حالة واحدة فخالف صريح المعقول‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ هذه رقيقة ذلك المرئى أو هذه روحانيته أو هذا معناه تشكل، ولا يعرفون أنه جنى تصور بصورته‏.‏
ومنهم من يظن أنه ملك، والملك يتميز عن الجنى بأمور كثيرة، والجن فيهم الكفار والفُساق والجُهَّال، وفيهم المؤمنون المتبعون لمحمد صلى الله عليه وسلم تسليما، فكثير ممن لم يعرف أن هؤلاء جن وشياطين يعتقدهم ملائكة‏.‏ وكذلك الذين يدعون الكواكب وغيرها من الأوثان تتنزل على أحدهم روح يقول‏:‏ هى روحانية الكواكب، ويظن بعضهم أنه من الملائكة وإنما هو من الجن والشياطين يغوون المشركين‏.‏
والشياطين يوالون من يفعل ما يحبونه من الشرك والفسوق والعصيان‏.‏ فتارة يخبرونه ببعض الأمور الغائبة ليكاشف بها‏.‏ وتارة يؤذون من يريد أذاه بقتل وتمريض ونحو ذلك‏.‏
وتارة يجلبون له من يريده من الإنس‏.‏
وتارة يسرقون له ما يسرقونه من أموال الناس من نقد وطعام وثياب وغير ذلك، فيعتقد أنه من كرامات الأولياء وإنما يكون مسروقاً‏.‏
وتارة يحملونه فى الهواء فيذهبون به إلى مكان بعيد‏.‏ فمنهم من يذهبون به إلى مكة عَشِيَّة عرفة ويعودون به فيعتقد هذا كرامة، مع أنه لم يحج حج المسلمين‏:‏ لا أحرم ولا لبَّى، ولا طاف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، ومعلوم أن هذا من أعظم الضلال‏.‏
ومنهم من يذهب إلى مكة ليطوف بالبيت من غير عمرة شرعية، فلا يحرم إذا حاذى الميقات‏.‏ ومعلوم أن من أراد نسكاً بمكة لم يكن له أن يجاوز الميقات إلا محرماً، ولو قصدها لتجارة أو لزيارة قريب له أو طلب علم كان مأموراً أيضاً بالإحرام من الميقات، وهل ذلك واجب أو مستحب ‏؟‏ فيه قولان مشهوران للعلماء‏.‏ وهذا باب واسع‏.‏
ومنه السحر والكهانة، وقد بسط الكلام على هذا فى غير هذا الموضع‏.‏ وعند المشركين عباد الأوثان ومن ضاهاهم من النصارى ومبتدعة هذه الأمة فى ذلك من الحكايات ما يطول وصفه، فإنه ما من أحد يعتاد دعاء الميت والاستغاثة به نبياً كان أو غير نبى إلا وقد بلغه من ذلك ما كان من أسباب ضلاله؛ كما أن الذين يدعونهم فى مغيبهم ويستغيثون بهم فيرون من يكون فى صورتهم، أو يظنون أنه فى صورتهم ويقول‏:‏ أنا فلان ويكلمهم ويقضى بعض حوائجهم، فإنهم يظنون أن الميت المستغاث به هو الذى كلمهم وقضى مطلوبهم، وإنما هو من الجن والشياطين‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ هو ملك من الملائكة، والملائكة لا تعين المشركين وإنما هم شياطين أضلوهم عن سبيل الله‏.‏
وفى مواضع الشرك من الوقائع والحكايات التي يعرفها من هنالك ومن وقعت له ما يطول وصفه‏.‏
وأهل الجاهلية فيها نوعان‏:‏ نوع يكذب بذلك كله، ونوع يعتقد ذلك كرامات لأولياء الله‏.‏
فالأول يقول‏:‏ إنما هذا خيال فى أنفسهم لا حقيقة له فى الخارج، فإذا قالوا ذلك لجماعة بعد جماعة، فمن رأى ذلك وعاينه موجودا أو تواتر عنده ذلك عمن رآه موجوداً فى الخارج وأخبره به من لا يرتاب فى صدقه، كان هذا من أعظم أسباب ثبات هؤلاء المشركين المبتدعين المشاهدين لذلك، والعارفين به بالأخبار الصادقة‏.‏
ثم هؤلاء المكذبون لذلك متى عاينوا بعض ذلك، خضعوا لمن حصل له ذلك وانقادوا له واعتقدوا أنه من أولياء الله، مع كونهم يعلمون أنه لا يؤدى فرائض الله حتى ولا الصلوات الخمس، ولا يجتنب محارم الله؛ لا الفواحش ولا الظلم، بل يكون من أبعد الناس عن الإيمان والتقوى التي وصف الله بها أولياءه فى قوله تعالى‏:‏ ‏{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}‏ ‏[‏يونس‏:‏62، 63‏]‏‏.‏
فيرون من هو من أبعد الناس عن الإيمان والتقوى له من المكاشفات والتصرفات الخارقات ما يعتقدون أنه من كرامات أولياء الله المتقين‏.‏
فمنهم من يرتد عن الإسلام وينقلب على عقبيه، ويعتقد فيمن لا يصلى، بل ولا يؤمن بالرسل، بل يسب الرسل، ويتنقص بهم أنه من أعظم أولياء الله المتقين‏.‏
ومنهم من يبقى حائراً متردداً شاكاً مرتاباً يقدم إلى الكفر رِجْلا وإلى الإسلام أخرى، وربما كان إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان‏.‏
وسبب ذلك‏:‏ أنهم استدلوا على الولاية بما لا يدل عليها، فإن الكفار والمشركين والسحرة والكهان معهم من الشياطين من يفعل بهم أضعاف أضعاف ذلك‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 221، 222‏]‏‏.‏
وهؤلاء لابد أن يكون فيهم كذب وفيهم مخالفة للشرع، ففيهم من الإثم والإفك بحسب ما فارقوا أمر الله ونهيه الذى بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وتلك الأحوال الشيطانية نتيجة ضلالهم وشركهم وبدعتهم وجهلهم وكفرهم، وهى دلالة وعلامة على ذلك‏.‏
والجاهل الضال يظن أنها نتيجة إيمانهم وولايتهم لله تعالى، وأنها علامة ودلالة على إيمانهم وولايتهم لله سبحانه، وذلك أنه لم يكن عنده فرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان كما قد تكلمنا على ذلك فى مسألة ‏[‏الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان‏]‏، ولم يعلم أن هذه الأحوال التي جعلها دليلا على الولاية تكون للكفار ـ من المشركين وأهل الكتاب ـ أعظم مما تكون للمنتسبين إلى الإسلام، والدليل مستلزم للمدلول مختص به لا يوجد بدون مدلوله، فإذا وجدت للكفار والمشركين وأهل الكتاب لم تكن مستلزمة للإيمان فضلا عن الولاية، ولا كانت مختصة بذلك، فامتنع أن تكون دليلا عليه‏.‏
وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وكراماتهم ثمرة إيمانهم وتقواهم، لا ثمرة الشرك والبدعة والفسق‏.‏
وأكابر الأولياء إنما يستعملون هذه الكرامات بحجة للدين أو لحاجة للمسلمين‏.‏
والمقتصدون قد يستعملونها فى المباحات‏.‏
وأما من استعان بها فى المعاصى فهو ظالم لنفسه، مُتَعَدٍّ حد ربه، وإن كان سببها الإيمان والتقوى‏.‏ فمن جاهد العدو فغنم غنيمة فأنفقها فى طاعة الشيطان، فهذا المال، وإن ناله بسبب عمل صالح، فإذا أنفقه فى طاعة الشيطان كان وبالا عليه، فكيف إذا كان سبب الخوارق الكفر والفسوق والعصيان وهى تدعو إلى كفر آخر وفسوق وعصيان ‏؟‏‏!‏
ولهذا كان أئمة هؤلاء معترفين بأن أكثرهم يموتون على غير الإسلام‏.‏ ولبسط هذه الأمور موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن من أعظم أسباب ضلال المشركين ما يرونه أو يسمعونه عند الأوثان كإخبار عن غائب أو أمر يتضمن قضاء حاجة ونحو ذلك، فإذا شاهد أحدهم القبر انشق وخرج منه شيخ بهي عانقه أو كلمه، ظن أن ذلك هو النبى المقبور، أو الشيخ المقبور، والقبر لم ينشق، وإنما الشيطان مثّل له ذلك، كما يمثل لأحدهم أن الحائط انشق وأنه خرج منه صورة إنسان ويكون هو الشيطان تمثل له فى صورة إنسان وأراه أنه خرج من الحائط‏.‏
ومن هؤلاء من يقول لذلك الشخص الذى رآه قد خرج من القبر‏:‏ نحن لا نبقى فى قبورنا، بل من حين يقبر أحدنا يخرج من قبره ويمشى بين الناس‏.‏ ومنهم من يرى ذلك الميت فى الجنازة يمشى ويأخذ بيده، إلى أنواع أخرى معروفة عند من يعرفها‏.‏
وأهل الضلال إما أن يكذبوا بها وإما أن يظنوها من كرامات أولياء الله، ويظنون أن ذلك الشخص هو نفس النبى أو الرجل الصالح أو ملك على صورته، وربما قالوا‏:‏ هذه روحانيته أو رقيقته أو سره أو مثاله أو روحه تجسدت، حتى قد يكون من يرى ذلك الشخص فى مكانين فيظن أن الجسم الواحد يكون فى الساعة الواحدة فى مكانين، ولا يعلم أن ذلك حين تصور بصورته ليس هو ذلك الإنسى‏.‏
وهذا ونحوه مما يبين أن الذين يدعون الأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وغير قبورهم، هم من المشركين الذين يدعون غير الله، كالذين يدعون الكواكب والذين اتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، قال تعالى‏:‏ ‏{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 79، 80‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}‏‏[‏الإسراء‏:‏ 56، 57‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22، 23‏]‏‏.‏ ومثل هذا كثير فى القرآن‏:‏ ينهى أن يدعى غير الله لا من الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، فإن هذا شرك أو ذريعة إلى الشرك، بخلاف ما يطلب من أحدهم فى حياته من الدعاء والشفاعة فإنه لا يفضى إلى ذلك، فإن أحداً من الأنبياء والصالحين لم يعبد فى حياته بحضرته، فإنه ينهى من يفعل ذلك، بخلاف دعائهم بعد موتهم، فإن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم، وكذلك دعاؤهم فى مغيبهم هو ذريعة إلى الشرك‏.‏
فمن رأى نبياً أو ملكاً من الملائكة وقال له‏:‏ ‏[‏ادع لي‏]‏ لم يفض ذلك إلى الشرك به، بخلاف من دعاه فى مغيبه، فإن ذلك يفضى إلى الشرك به كما قد وقع، فإن الغائب والميت لا ينهى من يشرك، بل إذا تعلقت القلوب بدعائه وشفاعته أفضى ذلك إلى الشرك به فدعى وقصد مكان قبره أو تمثاله أو غير ذلك، كما قد وقع فيه المشركون ومن ضاهاهم من أهل الكتاب ومبتدعة المسلمين‏.‏
ومعلوم أن الملائكة تدعو للمؤمنين وتستغفر لهم كما قال تعالى ‏:‏ ‏{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7 ـ 9‏]‏، وقال تعالى ‏:‏‏{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5، 6‏]‏‏.‏
فالملائكة يستغفرون للمؤمنين من غير أن يسألهم أحد، وكذلك ما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والصالحين يدعو ويشفع للأخيار من أمته هو من هذا الجنس، هم يفعلون ما أذن الله لهم فيه بدون سؤال أحد‏.‏
وإذا لم يشرع دعاء الملائكة لم يشرع دعاء من مات من الأنبياء والصالحين، ولا أن نطلب منهم الدعاء والشفاعة وإن كانوا يدعون ويشفعون، لوجهين ‏:‏
أحدهما‏:‏ أن ما أمرهم الله به من ذلك هم يفعلونه وإن لم يطلب منهم، وما لم يؤمروا به لا يفعلونه ولو طلب منهم فلا فائدة فى الطلب منهم‏.‏
الثانى‏:‏ أن دعاءهم وطلب الشفاعة منهم فى هذه الحال يفضى إلى الشرك بهم ففيه هذه المفسدة‏.‏ فلو قدِّر أن فيه مصلحة لكانت هذه المفسدة راجحة، فكيف ولا مصلحة فيه، بخلاف الطلب منهم فى حياتهم وحضورهم فإنه لا مفسدة فيه، فإنهم ينهون عن الشرك بهم، بل فيه منفعة، وهو أنهم يثابون ويؤجرون على ما يفعلونه حينئذ من نفع الخلق كلهم، فإنهم فى دار العمل والتكليف، وشفاعتهم فى الآخرة فيها إظهار كرامة الله لهم يوم القيامة‏.‏
وأصل سؤال الخلق الحاجات الدنيوية التى لا يجب عليهم فعلها ليس واجباً على السائل ولا مستحباً، بل المأمور به سؤال الله تعالى والرغبة إليه والتوكل عليه‏.‏ وسؤال الخلق فى الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً على الله أفضل، قال تعالى‏:‏ ‏{ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 7، 8‏]‏ أى ارغب إلى الله لا إلى غيره، وقال تعالى‏:‏ ‏{ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ }‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 59‏]‏ فجعل الإيتاء لله والرسول لقوله تعالى‏:‏ ‏{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏، فأمرهم بإرضاء الله ورسوله‏.‏
وأما فى الحسب فأمرهم أن يقولوا‏:‏ ‏{حَسْبُنَا اللّهُ}‏ لا يقولوا‏:‏ حسبنا الله ورسوله‏.‏ ويقولوا‏:‏ ‏{ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ }‏ ‏[‏التوبة‏:‏59‏]‏ لم يأمرهم أن يقولوا‏:‏ إنا لله ورسوله راغبون، فالرغبة إلى الله وحده كما قال تعالى فى الآية الأخرى‏:‏ ‏{ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }‏ ‏[‏النور‏:‏ 52‏]‏، فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده‏.‏
وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لابن عباس‏:‏ ‏(‏يا غلام، إنى معلمك كلمات‏:‏ احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جَفَّ القلم بما أنت لاق، فلو جهدت الخليقة على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن فى الصبر على ما تكره خيراً كثيراً‏)‏، وهذا الحد





أتى هذا المقال من شبكة الفرقان السلفية
http://www.elforqane.net

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.elforqane.net/fatawa-891.html