السؤال :
حكم الاتحادية ومن اعتذر عنهم
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الأحد الحق المبين. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، وعلى سائر إخوانه المرسلين.
أما بعد:
فقد وصل كتابك، تلتمس فيه بيان مذهب هؤلاء الاتحادية وبيان بطلانه، وإنك كنت قد سمعت مني بعض البيان لفساد قولهم، وضاق الوقت بك عن استتمام بقية البيان، وأعجلك السفر، حتى رأيت عندكم بعض من ينصر قولهم، ممن ينتسب إلى الطريقة والحقيقة، وصادف مني كتابك موقعًا، ووجدت محلا قابلا.
وقد كتبت بما أرجو أن ينفع الله به المؤمنين، ويدفع به بأس هؤلاء الملاحدة المنافقين، الذين يلحدون في أسماء الله وآياته المخلوقات والمنزلات في كتابه المبين، ويبين الفرق بين ما عليه أهل التحقيق واليقين، من أهل العلم والمعرفة المهتدين، وبين ما عليه هؤلاء الزنادقة المتشبهين بالعارفين، كما تشبه بالأنبياء من تشبه من المتنبئين، كما شبهوا بكلام الله ما شبهوه به من الشعر المفتعل وأحاديث المفترين؛ ليتبين أن هؤلاء من جنس الكفار المنافقين المرتدين، أتباع فرعون والقرامطة الباطنيين، وأصحاب مسيلمة والعنسى ونحوهما من المفترين، وأن أهل العلم والإيمان من الصديقين والشهداء والصالحين، سواء كانوا من المقربين السابقين، أو من المقتصدين أصحاب اليمين، هم من أتباع إبراهيم الخليل، وموسى الكليم، ومحمد المبعوث إلى الناس أجمعين.
قد فرق الله في كتابه المبين الذي جعله حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه من الحق، بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والمؤمنين والكافرين، وقال تعالى: {أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}[الجاثية:12]، وقال:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}[ص:82]، وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[القلم:35، 36]وقد بين حال من تشبه بالأنبياء وبأهل العلم والإيمان، من أهل الكذب والفجور الملبوس عليهم اللابسين، وأخبر أن لهم تنزلًا ووحيا ولكن من الشياطين، فقال:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أوليآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، وقال تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}[الشعراء: 221، 222].
وأخبر أن كل من ارتد عن دين الله فلابد أن يأتي الله بَدَلَه بمن يقيم دينه المبين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَل ِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
وذلك أن مذهب هؤلاء الملاحدة فيما يقولونه من الكلام، وينظمونه من الشعر بين حديث مفترى، وشعر مفتعل، وإليهما أشار أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ لما قال له عمر بن الخطاب في بعض ما يخاطبه به: يا خليفة رسول الله، تألف الناس. فأخذ بلحيته وقال: يا بن الخطاب، أجبارًا في الجاهلية خوارًا في الإسلام؟ علام أتألفهم؟ أعلى حديث مفترى أم شعر مفتعل؟ يقول: إني لست أدعوهم إلى حديث مفترى كقرآن مسيلمة، ولا شعر مفتعل كشعر طليحة الأسدي.
وهذان النوعان، هما اللذان يعارض بهما القرآن أهل الفجور والإفك المبين، قال تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:38 : 43]، وقال تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 192 ،193]، إلى قوله:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} إلى آخر السورة.
فذكر في هذه السورة علامة الكهان الكاذبين، والشعراء الغاوين، ونزهه عن هذين الصنفين، كما في سورة الحاقة. وقال تعالى: {إنَّهٍ لّقّوًلٍ رّسٍولُ كّرٌيمُ. ذٌي قٍوَّةُ عٌندّ ذٌي بًعّرًشٌ مّكٌينُ َ}إلى آخر السورة. فالرسول هنا جبريل، وفي الآية الأولى محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا نزه محمدًا هناك عن أن يكون شاعرًا أو كاهنا، ونزه هنا الرسول إليه أن يكون من الشياطين.
فصــل:
اعلم ـ هداك الله وأرشدك ـ أن تصور مذهب هؤلاء كاف في بيان فساده، لا يحتاج مع حسن التصور إلى دليل آخر، وإنما تقع الشبهة؛ لأن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم، لما فيه من الألفاظ المجملة والمشتركة، بل وهم أيضا لا يفهمون حقيقة ما يقصدونه ويقولونه، ولهذا يتناقضون كثيرًا في قولهم، وإنما ينتحلون شيئا ويقولونه أو يتبعونه.
ولهذا قد افترقوا بينهم على فرق، ولا يهتدون إلى التمييز بين فرقهم، مع استشعارهم أنهم مفترقون:
ولهذا لما بينت لطوائف من أتباعهم ورؤسائهم حقيقة قولهم، وسر مذهبهم، صاروا يعظمون ذلك، ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد لجعلوني من أئمتهم، وبذلوا لي من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصف، كما تبذله النصارى لرؤسائهم، والإسماعيلية لكبرائهم، وكما بذل آل فرعون لفرعون.
وكل من يقبل قول هؤلاء فهو أحد رجلين: إما جاهل بحقيقة أمرهم، وإما ظالم يريد علوًا في الأرض وفسادًا، أو جامع بين الوصفين، وهذه حال أتباع فرعون الذين قال الله فيهم: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54]
وحال القرامطة مع رؤسائهم.
وحال الكفار والمنافقين في أئمتهم الذين يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا}
إلى قوله:{وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:64-68] وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا} إلى قوله: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:165-167].
فصـل:
حقيقة قول هؤلاء: أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره ولا شيء سواه البتة، ولهذا من سماهم حلولية أو قال: هم قائلون بالحلول رأوه محجوبًا عن معرفة قولهم، خارجا عن الدخول إلى باطن أمرهم؛ لأن من قال: إن الله يحل في المخلوقات، فقد قال بأن المحل غير الحال، وهذا تثنية عندهم وإثبات لوجودين:
أحدهما: وجود الحق الحال.
والثاني: وجود المخلوق المحل، وهم لا يقرون بإثبات وجودين البتة.
ولا ريب أن هذا القول أقل كفرًا من قولهم، وهو قول كثير من الجهمية الذين كان السلف يردون قولهم، وهم الذين يزعمون أن الله بذاته في كل مكان. وقد ذكره جماعات من الأئمة والسلف عن الجهمية وكفروهم به، بل جعلهم خلق من الأئمة ـ كابن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أهل العلم والحديث من أصحاب أحمد وغيره ـ خارجين بذلك عن الثنتين والسبعين فرقة. وهو قول بعض متكلمة الجهمية وكثير من متعبديهم.
ولا ريب أن إلحاد هؤلاء المتأخرىن وتجهمهم وزندقتهم تفريع وتكميل لإلحاد هذه الجهمية الأولى وتجهمها وزندقتها.
وأما وجه تسميتهم اتحادية ففيه طريقان: أحدهما: لا يرضونه؛ لأن الاتحاد على وزن الاقتران، والاقتران يقتضي شيئين اتحد أحدهما بالآخر، وهم لا يقرون بوجودين أبدًا والطريق الثاني: صحة ذلك بناء على أن الكثرة صارت وحدة كما سأبينه من اضطرابهم.
وهذه الطريقة إما على مذهب ابن عربي، فإنه يجعل الوجود غير الثبوت ويقول: إن وجود الحق قاض على ثبوت الممكنات، فيصح الاتحاد بين الوجود والثبوت. وأما على قول من لا يفرق فيقول: إن الكثرة الخيالية صارت وحدة بعد الكشف، أو الكثرة العينية صارت وحدة إطلاقية.
فصـــل:
ولما كان أصلهم الذي بنوا عليه: أن وجود المخلوقات والمصنوعات، حتى وجود الجن والشياطين، والكافرين والفاسقين، والكلاب والخنازير، والنجاسات والكفر، والفسوق والعصيان: عين وجود الرب، لا أنه متميز عنه منفصل عن ذاته، وإن كان مخلوقا له مربوبًا مصنوعا له قائمًا به.
وهم يشهدون أن في الكائنات تفرقا وكثرة ظاهرة بالحس والعقل، فاحتاجوا إلى جمع يزيل الكثرة، ووحدة ترفع التفرق مع ثبوتها، فاضطربوا على ثلاث مقالات أنا أبينها لك وإن كانوا هم لا يبين بعضهم مقالة نفسه ومقالة غيره؛ لعدم كمال شهود الحق وتصوره.
المقالة الأولى: مقالة ابن عربي صاحب فصوص الحكم:
وهي مع كونها كفرًا فهو أقربهم إلى الإسلام؛ لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد كثيرًا، ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره، بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى. والله أعلم بما مات عليه، فإن مقالته مبنية على أصلين:
أحدهما: أن المعدوم شيء ثابت في العدم، موافقة لمن قال ذلك من المعتزلة والرافضة.
وأول من ابتدع هذه المقالة في الإسلام: أبو عثمان الشحام شيخ أبي على الجبائي، وتبعه عليها طوائف من القدرية المبتدعة من المعتزلة والرافضة، وهؤلاء يقولون: إن كل معدوم يمكن وجوده فإن حقيقته وماهيته وعينه ثابتة في العدم؛ لأنه لولا ثبوتها لما تميز عن المعلوم المخبر عنه من غير المعلوم المخبر عنه، ولما صح قصد ما يراد إيجاده؛ لأن القصد يستدعى التمييز، والتمييز لا يكون إلا في شيء ثابت.
لكن هؤلاء وإن ابتدعوا هذه المقالة التي هي باطلة في نفسها، ـ وقد كفرهم بها طوائف من متكلمة السنة ـ فهم يعترفون بأن الله خلق وجودها، ولا يقولون: إن عين وجودها عين وجود الحق.
وأما صاحب الفصوص وأتباعه فيقولون: عين وجودها عين وجود الحق، فهي متميزة بذواتها الثابته في العدم، متحدة بوجود الحق القائم بها. وعامة كلامه ينبني على هذا لمن تدبره وفهمه.
وابن عربي إذا جعل الأعيان ثابتة لزمه وجود كل ممكن، وليس هذا قول المعتزلة، فهذا فرق ثالث.
وهؤلاء القائلون بأن المعدوم شيء ثابت في العدم ـ سواء قالوا بأن وجودها خلق لله أو هو الله ـ يقولون: إن الماهيات والأعيان غير مجعولة ولا مخلوقة، وإن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته، وقد يقولون: الوجود صفة للموجود.
وهذا القول وإن كان فيه شبه بقول القائلين بقدم العالم، أو القائلين بقدم مادة العالم وهيولاه المتميزة عن صورته، فليس هو إياه، وإن كان بينهما قدر مشترك، فإن هذه الصورة المحدثة من الحيوانات والنبات والمعادن ليست قديمة باتفاق جميع العقلاء، بل هي كائنة بعد أن لم تكن
وكذلك الصفات والأعراض القائمة بأجسام السموات، والاستحالات القائمة بالعناصر، من حركات الكواكب، والشمس والقمر والسحاب والمطر، و الرعد والبرق وغير ذلك، كل هذا حادث غير قديم، عند كل ذي حس سليم، فإنه يرى ذلك بعينه.
والذين يقولون بأن عين المعدوم ثابتة في القدم أو بأن مادته قديمة، يقولون بأن أعيان جميع هذه الأشياء ثابتة في القدم، ويقولون: إن مواد جميع العالم قديمة دون صوره.
واعلم أن المذهب إذا كان باطلا في نفسه، لم يمكن الناقد له أن ينقله على وجه يتصور تصورًا حقيقيا، فإن هذا لا يكون إلا للحق. فأما القول الباطل فإذا بُيِّن فبيانه يظهر فساده، حتى يقال: كيف اشتبه هذا على أحد ويتعجب من اعتقادهم إياه، ولا ينبغي للإنسان أن يعجب، فما من شيء يتخيل من أنواع الباطل إلا وقد ذهب إليه فريق من الناس؛ ولهذا وصف الله أهل الباطل بأنهم أموات وأنهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18]، وأنهم {لا يفقهون}، وأنهم {لا يعقلون}وأنهم{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}[الذاريات:8، 9]، وأنهم{فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:45]، وأنهم {يَعْمَهُونَ}[البقرة: 15].
وإنما نشأ ـ والله أعلم ـ الاشتباه على هؤلاء من حيث رأوا أن الله ـ سبحانه ـ يعلم ما لم يكن قبل كونه، أو:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فرأوا أن المعدوم الذي يخلقه يتميز في علمه وإرادته وقدرته، فظنوا ذلك لتميز ذات له ثابتة وليس الأمر كذلك.
وإنما هو متميز في علم الله وكتابه، والواحد منا يعلم الموجود، والمعدوم الممكن، والمعدوم المستحيل، ويعلم ما كان كآدم والأنبياء، ويعلم ما يكون كالقيامة والحساب، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما يعلم ما أخبر الله به عن أهل النار، {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ}[الأنعام:28]، وأنهم {وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23]، وأنه {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، وأنه {لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}[الإسراء:42]، وأنهم {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا} [التوبة:47]، وأنه{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عليكم وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21]، ونحو ذلك من الجمل الشرطية التي يعلم فيها انتفاء الشرط أو ثبوته.
فهذه الأمور التي نعلمها نحن ونتصورها، إما نافين لها أو مثبتين لها في الخارج أو مترددين، ليس بمجرد تصورنا لها يكون لأعيانها ثبوت في الخارج عن علمنا وأذهاننا، كما نتصور جبل ياقوت وبحر زئبق، وإنسانًا من ذهب وفرسًا من حجر. فثبوت الشيء في العلم والتقدير ليس هو ثبوت عينه في الخارج، بل العالم يعلم الشيء ويتكلم به ويكتبه وليس لذاته في الخارج ثبوت ولا وجود أصلا.
وهذا هو تقدير الله السابق لخلقه، كما في صحيح مسلم: عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة).
وفي سنن أبي داود: عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب. قال: رب، وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، وقال ابن عباس:إن الله خلق الخلق وعلم ما هم عاملون، ثم قال لعلمه: كن كتابا فكان كتابا؟ ثم أنزل تصديق ذلك في كتابه فقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70]
وهذا هو معنى الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ وفي رواية: متى كتبت نبيا؟ ـ قال: (وآدم بين الروح والجسد)، هكذا لفظ الحديث الصحيح.
وأما ما يرويه هؤلاء الجهال ـ كابن عربي في الفصوص وغيره من جهال العامة: (كنت نبيا وآدم بين الماء و الطين)، (كنت نبيا وآدم لا مـاء ولا طين). فهذا لا أصل له ولم يروه أحد من أهل العـلم الصادقـين، ولا هـو في شيء من كـتب العلـم المعتمدة بهذا اللفظ، بل هو باطل، فإن آدم لم يكن بين الماء والطين قط، فإن الله خلقه من تراب، وخلط التراب بالماء حتى صار طينًا، وأيبس الطين حتى صار صَلْصَالًا كالفَخَّار، فلم يكن له حال بين الماء والطين مركب من الماء والطين، ولـو قيـل: بين المـاء والتراب لكان أبعد عن المحـال، مع أن هـذا الحـال لا اختصـاص لها، وإنما قال: (بين الروح والجسد)، وقال: (وإن آدم لمنجدل في طينته)؛ لأن جسد آدم بقى أربعين سنة قبل نفخ الروح فيه، كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} الآية [الإنسان:1]، وقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ} الآيتين [الحجر: 28]، وقال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ} الآيتين [السجدة:7]، وقال تعالى:{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ}الآية [ص:71]. والأحاديث في خلق آدم ونفخ الروح فيه مشهورة في كتب الحديث والتفسير وغيرهما.
فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كان نبيا، أي: كتب نبيا وآدم بين الروح والجسد. وهذا ـ والله أعلم ـ لأن هذه الحالة فيها يقدر التقدير الذييكون بأيدي ملائكة الخلق، فيقدر لهم ويظهر لهم، ويكتب ما يكون من المخلوق قبل نفخ الروح فيه، كما أخرج الشيخان في الصحيحين وفي سائر الكتب الأمهات: حديث الصادق المصدوق، وهو من الأحاديث المستفيضة، التي تلقاها أهل العلم بالقبول وأجمعوا على تصديقها، وهو حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح)، وقال: (فوالذي نفسي بيده، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة).
فلما أخبر الصادق المصدوق أن الملك يكتب رزقه وعمله وأجله وشقى أو سعيد بعد خلق الجسد وقبل نفخ الروح. وآدم هو أبو البشر كان أيضا من المناسب لهذا أن يكتب بعد خلق جسده، وقبل نفخ الروح فيه ما يكون منه، ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم فهو أعظم الذرية قدرًا وأرفعهم ذكرًا.
فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كتب نبيا حينئذ، وكتابة نبوته هو معنى كون نبوته، فإنه كون في التقدير الكتابي، ليس كونا في الوجود العيني؛ إذ نبوته لم يكن وجودها حتى نبأه الله تعالى على رأس أربعين سنة من عمره صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى له:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} الآية [الشورى:52]، وقال:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} الآية[الضحى:6]. وقال:{نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الآية [يوسف:3].
ولذلك جاء هذا المعنى مفسرًا في حديث العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني عبد الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري: دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام)، هذا لفظ الحديث من رواية ابن وهب.
حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض، رواه البغوي في شرح السنة هكذا، ورواه الليث بن سعد عنه نحوه، ورواه الإمام أحمد في المسند عن ابن مهدي: حدثنا معاوية بن صالح بالإسناد عن العرباض قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني عبد الله خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين)، وقوله: (لمنجدل في طينته) أي: ملتف ومطروح على وجه الأرض صورة من طين لم تجر فيه الروح بعد.
وقد روى أن الله كتب اسمه على العرش وعلى ما في الجنة من الأبواب والقباب والأوراق، وروي في ذلك عدة آثار توافق هذه الأحاديث الثابتة، التي تبين التنويه باسمه وإعلاء ذكره حينئذ.
وقد تقدم لفظ الحديث الذي في المسند عن ميسرة الفجر لما قيل له: متى كنت نبيا؟ قال: (وآدم بين الروح والجسد)، وقد رواه أبو الحسين بن بِشْرَان من طريق الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي في الوفا بفضائل المصطفى صلى الله عليه وسلم:حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو، حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح، ثنا محمد بن صالح، ثنا محمد بن سنان العوفي، ثنا إبراهيم بن طهمان، عن يزيد بن ميسرة، عن عبد الله بن سفيان، عن ميسرة قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ قال: (لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، وخلق العرش، كتب على ساق العرش: محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء، فكتب اسمي على الأبواب والأوراق، والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى، نظر إلى العرش فرأى اسمى فأخبره الله أنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه).
وروى أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة، ومن طريق الشيخ أبي الفرج: حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا أحمد بن رِشْدِين، ثنا أحمد بن سعيد الفهري، ثنا عبد الله بن إسماعيل المدني، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما أصاب آدم الخطيئة رفع رأسه فقال: يارب، بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى إليه وما محمد؟ ومن محمد؟ فقال: يا رب، إنك لما أتممت خلقي رفعت رأسي إلى عرشك، فإذا عليه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك؛ إذ قرنت اسمه مع اسمك. فقال: نعم، قد غفرت لك وهو آخر الأنبياء من ذريتك ولولاه ما خلقتك)، فهذا الحديث يؤيد الذي قبله وهما كالتفسير للأحاديث الصحيحة.
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يأتى غار حِراء فيتحنَّثُ فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق، وهو بحراء، فأتاه الملك فقال له: اقرأ. قال: (لست بقاريء). قال: (فأخذني فغَطَّنِي حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: لست بقاريء) قال: (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت:لست بقارئ، ثم أخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني)، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [سورة العلق] فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره. الحديث بطوله.
فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح أنه لم يكن قارئا، وهذه السورة أول ما أنزل الله عليه وبها صار نبيًا، ثم أنزل عليه سورة المدثر، وبها صار رسولا لقوله:{قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2]؛ ولهذا ذكر ـ سبحانه ـ في هذه السورة الوجود العيني والوجود العلمي، وهذا أمر بين، يعقله الإنسان بقلبه لا يحتاج فيه إلى سمع، فإن الشيء لا يكون قبل كونه.
وأما كون الأشياء معلومة لله قبل كونها، فهذا حق لا ريب فيه، وكذلك كونها مكتوبة عنده أو عند ملائكته، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وجاءت به الآثار.
وهذا العلم والكتاب هو القدر الذي ينكره غالية القدرية، ويزعمون أن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وهم كفار، كفَّرهم الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما.
وقد بين الكتاب والسنة هذا القدر، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال الوارد عليه، وهو ترك العمل لأجله، فأجاب صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال: كنا في جنازة في بَقِيع الغَرْقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخْصَرة فنكس، فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: (ما منكم من أحد) ـ أو قال ـ (ما من نفس منفوسة إلا قد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة). قال: فقال رجل:يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل، فمن كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ فقال: (اعملوا فكل مُيَسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة)، ثم قرأ:{فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل:5] إلى آخر الآيات. وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالسا وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال: (ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار) قالوا: يا رسول الله، ففيم العمل؟ أفلا نتكل؟ قال: (لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ثم قرأ {فَأَمَّا مَن أَعْطَى} الآية. وفي الصحيحين أيضًا عن عمران بن حصين قال: قيل: يا رسول الله، أَعُلِم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: (نعم) قال: فقيل: ففيم يعمل العاملون؟ فقال: (كل ميسر لما خلق له) وفي رواية: أن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبت الحجة عليهم؟ فقال: (لا. بل شيء قضى عليهم ومضي فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}) [الشمس:7، 8].
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: جاء سراقة بن مالك بن جُعْشُم قال: يا رسول الله، بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل؟ قال: (لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير). قال: ففيم العمل؟ قال: (اعملوا فكل ميسر).
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ـ قال: وعرشه على الماء)
وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: يا بني، إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: رب، ما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة). يا بني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات على غير هذا فليس مني)، ورواه الترمذي من وجه آخر عن الوليد بن عبادة أنه قال: دعاني ـ يعني أباه ـ عند الموت فقال: يا بني، اتق الله، واعلم أنك إن تتق الله تؤمن بالله وتؤمن بالقدر كله، خيره وشره، وإن مت على غير هذا دخلت النار، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر، ما كان وما هو كائن إلى الأبد).
وفي الترمذي أيضا عن أبي خزامة عن أبيه، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله تعالى شيئا؟ قال: (هي من قدر الله).
لكن إنما ثبتت في التقدير المعدوم الممكن الذي سيكون، فأما المعدوم الممكن الذي لا يكون فمثل إدخال المؤمنين النار وإقامة القيامة قبل وقتها، وقلب الجبال يواقيت ونحو ذلك، فهذا المعدوم ممكن وهو شيء ثابت في العدم عند من يقول: المعدوم شيء، ومع هذا، فليس بمقدر كونه، والله يعلمه على ما هو عليه، يعلم أنه ممكن وأنه لا يكون.
وكذلك الممتنعات مثل شريك الباري وولده، فإن الله يعلم أنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ويعلم أنه ليس له شريك في الملك ولا وليُّ من الذل، ويعلم أنه حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، ويعلم أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
والذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة عقلاء بني آدم من جميع الأصناف:أن المعدوم ليس في نفسه شيئا، وأن ثبوته ووجوده وحصوله شيء واحد، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع القديم، قال الله تعالى لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9]، فأخبر أنه لم يك شيئا، وقال تعالى:{أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}[مريم:67]، وقال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35].
فأنكر عليهم اعتقاد أن يكونوا خُلِقوا من غير شيء خلقهم أم خَلَقوا هم أنفسهم، ولهذا قال جبير بن مطعم: لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة أحسست بفؤادي قد انصدع، ولو كان المعدوم شيئا لم يتم الإنكار إذا جاز أن يقال: ما خلقوا إلا من شيء، لكن هو معدوم فيكون الخالق لهم شيئا معدوما. وقال تعالى:{فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:60]. ولو كان المعدوم شيئا لكان التقدير: لا يظلمون موجودًا ولا معدومًا، والمعدوم لا يتصور أن يظلموه فإنه ليس لهم.
وأما قوله:{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] فهو إخبارعن الزلزلة الواقعة أنها شيء عظيم ليس إخبارًا عن الزلزلة في هذه الحال، ولهذا قال: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج:2]، ولو أريد به الساعة لكان المراد به أنها شيء عظيم في العلم والتقدير.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل:40] قد استدل به من قال: المعدوم شيء وهو حجة عليه؛ لأنه أخبر أنه يريد الشيء وأنه يكونه، وعندهم أنه ثابت في العدم وإنما يراد وجوده لا عينه ونفسه، والقرآن قد أخبر أن نفسه تراد وتكون، وهذا من فروع هذه المسألة.
فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة العقلاء أن الماهيات مجعولة، وأن ماهية كل شيء عين وجوده، وأنه ليس وجود الشيء قدرًا زائدًا على ماهيته، بل ليس في الخارج إلا الشيء الذي هو الشيء وهو عينه ونفسه وماهيته وحقيقته، وليس وجوده وثبوته في
الخارج زائدا على ذلك.
وأولئك يقولون: الوجود قدر زائد على الماهية، ويقولون: الماهيات غير مجعولة، ويقولون: وجود كل شيء زائد على ماهيته، ومن المتفلسفة من يفرق بين الوجود والواجب والممكن فيقول: الوجود الواجب عين الماهية. وأما الوجود الممكن فهو زائد على الماهية. وشبهة هؤلاء: ما تقدم من أن الإنسان قد يعلم ماهية الشيء ولا يعلم وجوده، وأن الوجود مشترك بين الموجودات، وماهية كل شيء مختصة به.
ومن تدبر تبين له حقيقة الأمر، فإنا قد بينا الفرق بين الوجود العلمي والعيني، وهذا الفرق ثابت في الوجود والعين والثبوت والماهية وغير ذلك، فثبوت هذه الأمور في العلم والكتاب والكلام: ليس هو ثبوتها في الخارج عن ذلك، وهو ثبوت حقيقتها وماهيتها التي هي هي، فالإنسان إذا تصور ماهية فقد علم وجودها الذهني، ولا يلزم من ذلك الوجود الحقيقي الخارجي. فقول القائل: قد تصورت حقيقة الشيء وعينه، ونفسه وماهيته، وما علمت وجوده، أو حصل وجوده العلمي، وما حصل وجوده العيني الحقيقي، ولم يعلم ماهيته الحقيقية، ولا عينه الحقيقية، ولا نفسه الحقيقية الخارجية، فلا فرق بين لفظ وجوده ولفظ ماهيته، إلا أن أحد اللفظين قد يعبر به عن الذهني، والآخر عن الخارجي، فجاء الفرق من جهة المحل لا من جهة الماهية والوجود.
وأما قولهم: إن الوجود مشترك والحقيقة لا اشتراك فيها، فالقول فيه كذلك، فإن الوجود المعين الموجود في الخارج لا اشتراك فيه، كما أن الحقيقة المعينة الموجودة في الخارج لا اشتراك فيها وإنما العلم يدرك الموجود المشترك كما يدرك الماهية المشتركة، فالمشترك ثبوته في الذهن لا في الخارج، وما في الخارج ليس فيه اشتراك البتة، والذهن إن أدرك الماهية المعينة الموجودة في الخارج لم يكن فيها اشتراك، وإنما الاشتراك فيما يدركه من الأمور المطلقة العامة، وليس في الخارج شيء مطلق عام بوصف الإطلاق والعموم، وإنما فيه المطلق لا بشرط الإطلاق، وذلك لا يوجد في الخارج إلا معينا.
فينبغي للعاقل أن يفرق بين ثبوت الشيء ووجوده في نفسه، وبين ثبوته ووجوده في العلم، فإن ذاك هو الوجود العيني الخارجي الحقيقي، وأما هذا فيقال له: الوجود الذهني والعلمي، وما من شيء إلا له هذان الثبوتان، فالعلم يعبر عنه باللفظ ويكتب اللفظ بالخط، فيصير لكل شيء أربع مراتب: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان، وجود عيني، وعلمي، ولفظي، ورسمي.
ولهذا كان أول ما أنزل الله على نبيه سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ذكر فيها النوعين فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}[العلق:1، 2]، فذكر جميع المخلوقات بوجودها العيني عموما ثم خصوصا، فخص الإنسان بالخلق بعد ما عم غيره، ثم قال: {قْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:3: 5]، فخص التعليم للإنسان بعد تعميم التعليم بالقلم، وذكر القلم؛ لأن التعليم بالقلم هو الخط وهو مستلزم لتعليم اللفظ، فإن الخط يطابقه، وتعليم اللفظ هو البيان وهو مستلزم لتعليم العلم؛ لأن العبارة تطابق المعنى. فصار تعليمه بالقلم مستلزما للمراتب الثلاث: اللفظي، والعلمي، والرسمي، بخلاف ما لو أطلق التعليم أو ذكر تعليم العلم فقط لم يكن ذلك مستوعبا للمراتب.
فذكر في هذه السورة الوجود العيني والعلمي، وأن الله ـ سبحانه ـ هو معطيهما؛ فهو خالق الخلق وخالق الإنسان، وهو المعلم بالقلم ومعلم الإنسان.
فأما إثبات وجود الشيء في الخارج قبل وجوده، فهذا أمر معلوم الفساد بالعقل والسمع، وهو مخالف للكتاب والسنة والإجماع.
فصــــل:
فهذا أحد أصلي ابن عربي. وأما الأصل الآخر فقولهم: إن وجود الأعيان نفس وجود الحق وعينه، وهذا انفردوا به عن جميع مثبتة الصانع من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمشركين، وإنما هو حقيقة قول فرعون والقرامطة المنكرين لوجود الصانع، كما سنبينه إن شاء الله.
فمن فهم هذا فهم جميع كلام ابن عربي، نظمه ونثره، وما يدعيه من أن الحق يغتذي بالخلق؛ لأن وجود الأعيان مغتذ بالأعيان الثابتة في العدم، ولهذا يقول بالجمع من حيث الوجود، وبالفرق من حيث الماهية والأعيان، ويزعم أن هذا هو سر القدر؛ لأن الماهيات لا تقبل إلا ما هو ثابت لها في العدم في أنفسها، فهي التي أحسنت وأساءت وحمدت وذمت، والحق لم يعطها شيئاً إلا ما كانت عليه في حال العدم.
فتدبر كلامه كيف انتظم شيئين: إنكار وجود الحق، وإنكار خلقه لمخلوقاته، فهو منكر للرب الذي خلق فلا يقر برب ولا بخلق، ومنكر لرب العالمين، فلا رب ولا عالمون مربوبون، إذ ليس إلا أعيان ثابتة، ووجود قائم بها، فلا الأعيان مربوبة ولا الوجود مربوب، ولا الأعيان مخلوقة ولا الوجود مخلوق.وهذا يفرق بين المظاهر والظاهر والمجلى والمتجلي؛ لأن المظاهر عنده هي الأعيان الثابته في العدم، وأما الظاهر فهو وجود الخلق.
فصـل:
وأما صاحبه ـ الصدر الفخر الرومي ـ فإنه لا يقول:إن الوجود زائد على الماهية، فإنه كان أدخل في النظر والكلام من شيخه، لكنه أكفر وأقل علماً وإيماناً، وأقل معرفة بالإسلام وكلام المشايخ،ولما كان مذهبهم كفراً كان كل من حذق فيه كان أكفر.فلما رأى أن التفريق بين وجود الأشياء وأعيانها لا يستقيم، وعنده أن الله هو الوجود، ولابد من فرق بين هذا وهذا، فرق بين المطلق والمعين، فعنده أن الله هو الوجود المطلق الذي لا يتعين ولا يتميز، وأنه إذا تعين وتميز فهو الخلق، سواء تعين في مرتبة الإلهية أو غيرها.
وهذا القول قد صرح فيه بالكفر أكثر من الأول، وهو حقيقة مذهب فرعون والقرامطة، وإن كان الأول أفسد من جهة تفرقته بين وجود الأشياء وثبوتها، وذلك أنه على القول الأول يمكن أن يجعل للحق وجوداً خارجاً عن أعيان الممكنات، وأنه فاض عليها، فيكون فيه اعتراف بوجود الرب القائم بنفسه الغني عن خلقه، وإن كان فيه كفر من جهة أنه جعل المخلوق هو الخالق، والمربوب هو الرب، بل لم يثبت خلقا أصلا، ومع هذا فما رأيته صرح بوجود الرب متميزاً عن الوجود القائم بأعيان الممكنات.
وأما هذا فقد صرح بأنه ما ثم سوى الوجود المطلق الساري في الموجودات المعينة، والمطلق ليس له وجود مطلق، فما في الخارج جسم مطلق بشرط الإطلاق، ولا إنسان مطلق، ولا حيوان مطلق بشرط الإطلاق، بل لا يوجد إلا في شيء معين.
والحقائق لها ثلاث اعتبارات: اعتبار العموم والخصوص والإطلاق.
فإذا قلنا: حيوان عام أو إنسان عام، أو جسم عام، أو وجود عام، فهذا لا يكون إلا في العلم واللسان، وأما الخارج عن ذلك فما ثم شيء موجود في الخارج يعم شيئين؛ ولهذا كان العموم من عوارض صفات الحي. فيقال: علم عام، وإرادة عامة، وغضب عام، وخبر عام، وأمر عام.ويوصف صاحب الصفة بالعموم أيضا كما في الحديث الذي في سنن أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعلي وهو يدعو فقال: ( يا علي، عُمَّ، فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض)،وفي الحديث أنه لما نزل قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء:214] عم وخص،رواه مسلم من حديث موسى بن طلحة عن أبي هريرة.
وتوصف الصفة بالعموم كما في حديث التشهد:(السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. فإذا قلتم ذلك فقد أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض) وأما إطلاق من أطلق أن العموم من عوارض الألفاظ فقط، فليس كذلك؛ إذ معاني الألفاظ القائمة بالقلب أحق بالعموم من الألفاظ، وسائر الصفات، كالإرادة، والحب، والبغض، والغضب، والرضا يعرض لها من العموم والخصوص ما يعرض للقول، وإنما المعاني الخارجة عن الذهن هي الموجودة في الخارج، كقولهم: مطر عام وخصب عام، هذه التي تنازع الناس: هل وصفها بالعموم حقيقة أو مجازاً ؟ على قولين:
أحدهما: مجاز؛ لأن كل جزء من أجزاء المطر والخصب لا يقع إلا حيث يقع الآخر، فليس هناك عموم، وقيل:بل حقيقة؛ لأن المطر المطلق قد عم.
وأما الخصوص فيعرض لها إذا كانت موجودة في الخارج، فإن كل شيء له ذات وعين تختص به ويمتاز بها عن غيره: أعني الحقيقة العينية الشخصية التي لا اشتراك فيها، مثل: هذا الرجل وهذه الحبة وهذا الدرهم، وما عرض لها في الخارج فإنه يعرض لها في الذهن. فإن تصور الذهنية أوسع من الحقائق الخارجية، فإنها تشمل الموجود والمعدوم والممتنع والمقدرات.
وأما الإطلاق فيعرض لها إذا كانت في الذهن بلا ريب، فإن العقل يتصور إنساناً مطلقاً ووجوداً مطلقاً.
وأما في الخارج فهل يتصور شيء مطلق ؟ هذا فيه قولان، قيل:المطلق له وجود في الخارج، فإنه جزء من المعين، وقيل: لا وجود له في الخارج؛ إذ ليس في الخارج إلا معين مقيد،والمطلق الذي يشترك فيه العدد لا يكون جزءًا من المعين الذي لا يشركه فيه.
والتحقيق: أن المطلق بلا شرط أصلا يدخل فيه المقيد المعين، وأما المطلق بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المعين المقيد، وهذا كما يقول الفقهاء: الماء المطلق، فإنه بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المضاف، وأما المطلق لا بشرط فيدخل فيه المضاف.
فإذا قلنا: الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر،ونجس،فالثلاثة أقسام الماء. الطهور هو الماء المطلق الذي لا يدخل فيه ما ليس بطهور كالعصارات والمياه النجسة،فالماء المقسوم هو المطلق لا بشرط، والماء الذي هو قسيم للمائين هو المطلق بشرط الإطلا.
لكن هذا الإطلاق والتقييد الذي قاله الفقهاء في اسم الماء إنما هو في الإطلاق والتقييد اللفظي وهو ما دخل في اللفظ المطلق كلفظ ماء، أو في اللفظ المقيد كلفظ ماء نجس، أو ماء ورد.
وأما ما كان كلامنا فيه أولاً فإنه الإطلاق والتقييد في معاني اللفظ، ففرق بين النوعين، فإن الناس يغلطون لعدم التفريق بين هذين غلطاً كثيراً جداً، وذلك أن كل اسم فإما أن يكون مسماه معيناً لا يقبل الشركة، كأنا وهذا وزيد، ويقال له: المعين والجزء، وإما أن يقبل الشركة فهذا الذي يقبل الشركة هو المعنى الكلي المطلق، وله ثلاث اعتبارات كما تقدم.
وأما اللفظ المطلق والمقيد فمثال: تحرير رقبة، ولم تجدوا ماء، وذلك أن المعنى قد يدخل في مطلق اللفظ، ولا يدخل في اللفظ المطلق، أي يدخل في اللفظ لا بشرط الإطلاق، ولا يدخل في اللفظ بشرط الإطلاق، كما قلنا في لفظ الماء، فإن الماء يطلق على المني وغيره كما قال:{ مِن مَّاء دَافِقٍ } [الطارق:6]، ويقال: ماء الورد، لكن هذا لا يدخل في الماء عند الإطلاق، لكن عند التقييد، فإذا أخذ القدر المشترك بين لفظ الماء المطلق ولفظ الماء المقيد فهو المطلق بلا شرط الإطلاق، فيقال: الماء ينقسم إلى مطلق ومضاف، ومورد التقسيم ليس له اسم مطلق، لكن بالقرينة يقتضي الشمول والعموم، وهو قولنا: الماء ثلاثة أقسام. فهنا أيضا ثلاثة أشياء: مورد التقسيم وهو الماء العام وهو المطلق بلا شرط، لكن ليس له لفظ مفرد إلا لفظ مؤلف، والقسم المطلق وهو اللفظ بشرط إطلاقه، والثاني اللفظ المقيد وهو اللفظ بشرط تقييده.
وإنما كان كذلك؛لأن المتكلم باللفظ إما أن يطلقه أو يقيده، ليس له حال ثالثة، فإذا أطلقه كان له مفهوم، وإذا قيده كان له مفهوم، ثم إذا قيده إما أن يقيده بقيد العموم أو بقيد الخصوص،فقيد العموم كقوله: الماء ثلاثة أقسام، وقيد الخصوص كقوله: ماء الورد.
وإذا عرف الفرق بين تقييد اللفظ وإطلاقه، وبين تقييد المعنى وإطلاقه، عرف أن المعنى له ثلاثة أحوال: إما أن يكون أيضا مطلقا، أو مقيداً بقيد العموم، أو مقيداً بقيد الخصوص.
والمطلق من المعاني نوعان:مطلق بشرط الإطلاق، ومطلق لا بشرط.
وكذلك الألفاظ المطلق منها قد يكون مطلقا بشرط الإطلاق، كقولنا: الماء المطلق والرقبة المطلقة، وقد يكون مطلقاً لا بشرط الإطلاق، كقولنا: إنسان.
فالمطلق المقيد بالإطلاق لا يدخل فيه المقيد بما ينافي الإطلاق، فلا يدخل ماء الورد في الماء المطلق، وأما المطلق لا بقيد فيدخل فيه المقيد، كما يدخل الإنسان الناقص في اسم الإنسان.
فقد تبين أن المطلق بشرط الإطلاق من المعاني ليس له وجود في الخارج، فليس في الخارج إنسان مطلق، بل لابد أن يتعين بهذا أو ذاك، وليس فيه حيوان مطلق، وليس فيه مطر مطلق بشرط الإطلاق.
وأما المطلق بشرط الإطلاق من الألفاظ كالماء المطلق فمسماه موجود في الخارج؛ لأن شرط الإطلاق هنا في اللفظ، فلا يمنع أن يكون معناه معينا، وبشرط الإطلاق هناك في المعنى،والمسمى المطلق بشرط الإطلاق لا يتصور؛ إذ لكل موجود حقيقة يتيميز بها، وما لا حقيقة له يتميز بها ليس بشيء،وإذا كان له حقيقة يتميز بها فتمييزه يمنع أن يكون مطلقاً من كل وجه،فإن المطلق من كل وجه لا تمييز له،فليس لنا موجود هو مطلق بشرط الإطلاق ولكن العدم المحض قد يقال: هو مطلق بشرط الإطلاق، إذ ليس هناك حقيقة تتميز ولا ذات تتحقق، حتى يقال: تلك الحقيقة تمنع غيرها بحدها أن تكون إياها.
وأما المطلق من المعاني لا بشرط: فهذا إذا قيل بوجوده في الخارج فإنما يوجد معينا متميزاً مخصوصا، والمعين المخصوص يدخل في المطلق لا بشرط ولا يدخل في المطلق بشرط الإطلاق، إذ المطلق لا بشرط أعم، ولا يلزم إذا كان المطلق بلا شرط موجوداً في الخارج أن يكون المطلق المشروط بالإطلاق موجوداً في الخارج؛ لأن هذا أخص منه.
فإذا قلنا:حيوان، أو إنسان، أو جسم، أو وجود مطلق، فإن عنينا به المطلق بشرط الإطلاق، فلا وجود له في الخارج، وإن عنينا المطلق لا بشرط فلا يوجد إلا معينا مخصوصا، فليس في الخارج شيء إلا معين متميز منفصل عما سواه بحده وحقيقته.
فمن قال: إن وجود الحق هو الوجود المطلق دون المعين، فحقيقة قوله أنه ليس للحق وجود أصلا ولا ثبوت إلا نفس الأشياء المعينة المتميزة، والأشياء المعينة ليست إياه فليس شيئا أصلا.
وتلخيص النكتة: أنه لو عني به المطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له في الخارج فلا يكون للحق وجود أصلا، وإن عني به المطلق بلا شرط، فإن قيل بعدم وجوده في الخارج فلا كلام، وإن قيل بوجوده فلا يوجد إلا معينا، فلا يكون للحق وجود إلا وجود الأعيان، فيلزم محذوران:
أحدهما: أنه ليس للحق وجود سوى وجود المخلوقات.
والثاني: التناقض، وهو قوله: إنه الوجود المطلق دون المعين.
فتدبر قول هذا، فإنه يجعل الحق في الكائنات بمنزلة الكلى في جزئياته، وبمنزلة الجنس والنوع والخاصة، والفصل في سائر أعيانه الموجودة الثابتة في العدم.
وصاحب هذا القول يجعل المظاهر والمراتب في المتعينات، كما جعلها الأول في الأعيان الثابتة في العدم.
فصــل:
وأما التلمساني ونحوه، فلا يفرق بين ماهية ووجود، ولا بين مطلق ومعين بل عنده ما ثم سوى ولا غير بوجه من الوجوه، وإنما الكائنات أجزاء منه وأبعاض له، بمنزلة أمواج البحر في البحر، وأجزاء البيت من البيت، فمن شعرهم:
البحر لا شك عندي في توحـده ** وإن تعـدد بالأمـواج والزبـد
فلا يغرنك ما شاهدت من صـور ** فالواحد الرب ساري العين في العدد
ومنه:
فما البحر إلا الموج لا شيء غيره ** وإن فرقته كـثرة المتعـدد
ولا ريب أن هذا القول هو أحذق في الكفر والزندقة، فإن التمييز بين الوجود والماهية، وجعل المعدوم شيئا، أو التمييز في الخارج بين المطلق والمعين وجعل المطلق شيئا وراء المعينات في الذهن، قولان ضعيفان باطلان.
وقد عرف من حدد النظر: أن من جعل في هذه الأمور الموجودة في الخارج شيئين:
أحدهما: وجودها.
والثاني: ذواتها، أو جعل لها حقيقة مطلقة موجودة زائدة على عينها الموجودة فقد غلط غلطا قويا، واشتبه عليه ما يأخذه من العقل من المعاني المجردة المطلقة عن التعيين، ومن الماهيات المجردة عن الوجود الخارجي بما هو موجود في الخارج من ذلك، ولم يدر أن متصورات العقل ومقدراته أوسع مما هو موجود حاصل بذاته، كما يتصور المعدومات، والممتنعات، والمشروطات ويقدر ما لا وجود له البتة مما يمكن أو لا يمكن، ويأخذ من المعينات صفات مطلقة فيه، ومن الموجودات ذوات متصورة فيه.
لكن هذا القول أشد جهلا وكفراً بالله تعالى، فإن صاحبه لا يفرق بين المظاهر والظاهر، ولا يجعل الكثرة والتفرقة إلا في ذهن الإنسان لما كان محجوبا عن شهود الحقيقة، فلما انكشف غطاؤه عاين أنه لم يكن غير، وأن الرائي عين المرئي، والشاهد عين المشهود.
فصـــل:
واعلم أن هذه المقالات لا أعرفها لأحد من أمة قبل هؤلاء على هذا الوجه، ولكن رأيت في بعض كتب الفلسفة المنقولة عن أرسطو أنه حكى عن بعض الفلاسفة قوله: إن الوجود واحد، ورد ذلك. وحسبك بمذهب لا يرضاه متكلمة الصابئين.
وإنما حدَثتْ هذه المقالات بحدوث دولة التتار، وإنما كان الكفر الحلول العام، أو الاتحاد، أو الحلول الخاص، وذلك أن القسمة رباعية؛ لأن من جعل الرب هو العبد حقيقة، فإما أن يقول بحلوله فيه، أو اتحاده به، وعلى التقديرين، فإما أن يجعل ذلك مختصا ببعض الخلق، كالمسيح، أو يجعله عاماً لجميع الخلق. فهذه أربعة أقسام:
الأول: هو الحلول الخاص، وهو قول النسطورية من النصارى ونحوهم ممن يقول: إن اللاهوت حل في الناسوت، وتدرع به كحلول الماء في الإناء، وهؤلاء حققوا كفر النصارى،بسبب مخالطتهم للمسلمين، وكان أولهم في زمن المأمون،وهذا قول من وافق هؤلاء النصارى من غالية هذه الأمة، كغالية الرافضة الذين يقولون:إنه حل بعلي بن أبي طالب وأئمة أهل بيته، وغالية النساك الذين يقولون بالحلول في الأولياء ومن يعتقدون فيه الولاية، أو في بعضهم كالحلاج ويونس والحاكم ونحو هؤلاء.
والثاني: هو الاتحاد الخاص، وهو قول يعقوبية النصارى وهم أخبث قولا، وهم السودان والقبط، يقولون: إن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء، وهو قول من وافق هؤلاء من غالية المنتسبين إلى الإسلام.
والثالث: هو الحلول العام، وهو القول الذي ذكره أئمة أهل السنة والحديث، عن طائفة من الجهمية المتقدمين، وهو قول غالب متعبدة الجهمية، الذين يقولون: إن الله بذاته في كل مكان، ويتمسكون بمتشابه من القرآن كقوله: {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ } [الأنعام:3]، وقوله:{هومعكم} [الحديد:4]. والرد على هؤلاء كثير مشهور في كلام أئمة السنة، وأهل المعرفة، وعلماء الحديث.
الرابع: الاتحاد العام، وهو قول هؤلاء الملاحدة، الذين يزعمون أنه عين وجود الكائنات، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى من وجهين: من جهة أن أولئك قالوا: إن الرب يتحد بعبده الذي قربه واصطفاه، بعد أن لم يكونا متحدين،وهؤلاء يقولون: ما زال الرب هو العبد وغيره من المخلوقات ليس هو غيره. والثاني: من جهة أن أولئك خصوا ذلك بمن عظموه كالمسيح، وهؤلاء جعلوا ذلك ساريا في الكلاب، والخنازير، والأقذار، والأوساخ، وإذا كان الله تعالى قد قال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ }الآية[المائدة:72].فكيف بمن قال:إن الله هو الكفار، والمنافقون والصبيان، والمجانين والأنجاس، والأنتان وكل شيء ؟!
وإذا كان الله قد رد قول اليهود والنصاري لما قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } وقال لهم:{ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ } الآية [المائدة:18] فكيف بمن يزعم أن اليهود والنصارى هم أعيان وجود الرب الخالق ليسوا غيره ولا سواه؟ ولا يتصور أن يعذب الله إلا نفسه؟ وأن كل ناطق في الكون فهو عين السامع؟ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها) وأن الناكح عين المنكوح، حتى قال شاعرهم:
وتلتذ إن مرت على جسدي يدي ** لأني في التحقيق لست سواكم
واعلم أن هؤلاء لما كان كفرهم ـ في قولهم: إن الله هو مخلوقاته كلها ـ أعظم من كفر النصارى بقولهم: {قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } وكان النصارى ضلال، أكثرهم لا يعقلون مذهبهم في التوحيد، إذ هو شيء متخيل لا يعلم ولا يعقل، حيث يجعلون الرب جوهراً واحداً، ثم يجعلونه ثلاثة جواهر، ويتأولون ذلك بتعدد الخواص والأشخاص التي هي الأقانيم، والخواص عندهم ليست جواهر، فيتناقضون مع كفرهم.
كذلك هؤلاء الملاحدة الاتحادية ضلال، أكثرهم لا يعقلون قول رؤوسهم ولا يفقهونه، وهم في ذلك كالنصارى، كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم أعظم.
ولهم حظ من عبادة الرب الذي كفروا به، كما للنصارى، هذا ما دام أحدهم في الحجاب،فإذا ارتفع الحجاب عن قلبه وعرف أنه هو، فهو بالخيار بين أن يسقط عن نفسه الأمر، والنهي،ويبقى سدى يفعل ما أحب،وبين أن يقوم بمرتبة الأمر، والنهي، لحفظ المراتب، وليقتدي به الناس المحجوبون، وهم غالب الخلق، ويزعمون أن الأنبياء كانوا كذلك إذ عدوهم كاملين.
فصــل:
مذهب هؤلاء الاتحادية ـ كابن عربي، وابن سبعين، والقونوي، والتلمساني ـ مركب من ثلاثة مواد:
سلب الجهمية وتعطيلهم.
ومجملات الصوفية: وهو ما يوجد في كلام بعضهم من الكلمات المجملة المتشابهة، كما ضلت النصارى بمثل ذلك فيما يروونه عن المسيح، فيتبعون المتشابه، ويتركون المحكم، وأيضا كلمات المغلوبين على عقلهم الذين تكلموا في حال سكر.
ومن الزندقة الفلسفية التي هي أصل التجهم،وكلامهم في الوجود المطلق، والعقول، والنفوس، والوحي والنبوة، والوجوب والإمكان، وما في ذلك من حق وباطل.
فهذه المادة أغلب على ابن سبعين والقونوي، والثانية أغلب على ابن عربي؛ ولهذا هو أقربهم إلى الإسلام، والكل مشتركون في التجهم،والتلمساني أعظمهم تحقيقًا لهذه الزندقة والاتحاد التي انفردوا بها، وأكفرهم بالله، وكتبه، ورسله وشرائعه، واليوم الآخر.
وبيان ذلك أنه قال: هو فيَّ كان متجل بوحدته الذاتية، عالماً بنفسه وبما يصدر عنه، وأن المعلومات بأسرها كانت منكشفة في حقيقة العلم شاهداً لها.
فيقال له: قد أثبت علمه بما يصدر منه، وبمعلومات يشهدها غير نفسه، ثم ذكرت أنه عرض نفسه على هذه الحقائق الكونية المشهودة المعدومة، فعند ذلك عبر [ بأنا] وظهرت حقيقة النبوة، التي ظهر فيها الحق واضحا، وانعكس فيها الوجود المطلق، وأنه هو المسمى باسم الرحمن، كما أن الأول هو المسمي باسم الله.
وسقت الكلام إلى أن قلت: وهو الآن على ما عليه كان، فهذا الذي علم أنه يصدر عنه وكان مشهوداً له معدوماً في نفسه هو الحق أو غيره؟ فإن كان الحق فقد لزم أن يكون الرب كان معدوماً، وأن يكون صادراً عن نفسه، ثم إنه تناقض. وإن كان غيره، فقد جعلت ذلك الغير هو مرآة لانعكاس الوجود المطلق، وهو الرحمن، فيكون الخلق هو الرحمن.
فأنت حائر بين أن تجعله قد علم معدوماً صدر عنه، فيكون له غير وليس هو الرحمن، وبين أن تجعل هذا الظاهر والواصف هو إياه وهو الرحمن، فلا يكون معدوماً ولا صادراً عنه، وإما أن تصف الشيء بخصائص الحق الخالق تارة وبخصائص العبد المخلوق تارة، فهذا مع تناقضه كفر من أغلظ الكفر، وهو نظير قول النصارى: اللاهوت الناسوت، لكن هذا أكفر من وجوه متعددة.
فصـــل:
الوجه الأول: أن هذه الحقائق الكونية ـ التي ذكرت أنها كانت معدومة في نفسها، مشهودة أعيانها في علمه في تجليه المطلق، الذي كان فيه متحداً بنفسه بوحدته الذاتية ـ هل خلقها وبرأها وجعلها موجودة بعد عدمها، أم لم تزل معدومة ؟ فإن كانت لم تزل معدومة، فيجب ألا يكون شيء من الكونيات موجوداً، وهذا مكابرة للحس، والعقل، والشرع، ولا يقوله عاقل ولم يقله عاقل. وإن كانت صارت موجودة بعد عدمها، امتنع أن تكون هي إياه؛ لأن الله لم يكن معدوماً فيوجد.
وهذا يبطل الاتحاد، ووجب حينئذ أن يكون موجوداً ليس هو الله، بل هو خلقه ومماليكه وعبيده، وهذا يبطل قولك: وهو الآن لا شيء معه على ما عليه كان.
الثاني: أن قولك: تركبت الخلقة الإلهية من كان إلى سر شأنه،أو قولك:ظهر الحق فيه،أو نحو ذلك من الألفاظ التي يطلقها هؤلاء الاتحادية في هذا الموضع. مثل قولهم: ظهر الحق وتجلى، وهذه مظاهر الحق ومجاليه، وهذا مظهر إلهيُّ ومجلى إلهيّ، ونحو ذلك، أتعني به أن عين ذاته حصلت هناك؟ أو تعني به أنه صار ظاهراً متجلياً لها بحيث تعلمه؟ أو تعني به أنه ظهر لخلقه بها، وتجلى بها، وأنه ما ثم قسم رابع؟
فإن عنيت الأول ـ وهو قول الاتحادية ـ فقد صرحت بأن عين المخلوقات ـ حتى الكلاب، والخنازير، والنجاسات، والشياطين والكفار ـ هي ذات الله، أو هي وذات الله متحدتان، أو ذات الله حالة فيها، وهذا الكفر أعظم من كفر الذين قالوا:{ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } [المائدة: 17، 72] و{ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [المائدة:73]، وإن الله يلد ويولد، وأن له بنين وبنات. وإذا صرحت بهذا عرف المسلمون قولك فألحقوك ببني جنسك، فلا حاجة إلى ألفاظ مجملة يحسبها الظمآن ماء، ويا ليته إذا جاءها لم يجدها شيئا، بل يجدها سما ناقعا!
وإن عنيت أنه صار ظاهرًا متجليا لها، فهذا حقيقة أنه صار معلوماً لها، ولا ريب أن الله يصير معروفاً لعبده، لكن كلامك في هذا باطل من وجهين:
من جهة أنك جعلته معلوماً للمعدومات، التي لا وجود لها؛ لكونه قد علمها، واعتقدت أنها إذا كانت معلومة يجوز أن تصير عالمة، وهذا عين الباطل: من جهة أنه إذا علم أن الشيء سيكون، لم يجز أن يكون هذا قبل وجوده عالماً قادراً فاعلا.
ومن جهة أن هذا ليس حكم جميع الكائنات المعلومة، بل بعضها هو الذي يصح منه العلم.
وأما إن قلت: إن الله يعلم بها ـ لكونها آيات دالة عليه ـ فهذا حق، وهو دين المسلمين وشهود العارفين، لكنك لم تقل هذا لوجهين:
أحدهما: أنها لا تصير آيات إلا بعد أن يخلقها ويجعلها موجودة، لا في حال كونها معدومة معلومة، وأنت لم تثبت أنه خلقها ولا جعلها موجودة، ولا أنه أعطى شيئا خلقه، بل جعلت نفسه هو المتجلي لها.الوجه الثاني: أنك قد صرحت بأنه تجلى لها وظهر لها، لا أنه دل بها خلقه، وجعلها آيات تكون تبصرة وذكرى لكل عبد منيب، والله قد أخبر في كتابه أنه يجعل في هذه المصنوعات آيات، والآية مثل العلامة والدلالة كما قال:{ وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } إلى قوله: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة:163، 164] وتارة يسميها نفسها آية، كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُأَحْيَيْنَاهَا } [يس:33] وهذا الذي ذكره الله في كتابه هو الحق.
فإذا قيل في نظير ذلك: تجلى بها وظهر بها كما يقال: علم وعرف بها، كان المعنى صحيحا، لكن لفظ التجلي والظهور في مثل هذا الموضع غير مأثور، وفيه إيهام وإجمال، فإن الظهور والتجلي يفهم منه الظهور والتجلي للعين، لا سيما لفظ التجلي، فإن استعماله في التجلي للعين هو الغالب، وهذا مذهب الاتحادية، صرح به ابن عربي وقال: فلا تقع العين إلا عليه.
وإذا كان عندهم أن المرئي بالعين هو الله فهذا كفر صريح باتفاق المسلمين،بل قد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(واعلموا أن أحداًمنكم لن يري ربه حتى يموت) ولا سيما إذا قيل:ظهر فيها وتجلى،فإن اللفظ يصير مشتركا بين أن تكون ذاته فيها، أو تكون قد صارت بمنزلة المرآة التي يظهر فيها مثال المرئي، وكلاهما باطل، فإن ذات الله ليست في المخلوقات، ولا في نفس ذاته ترى المخلوقات كما يري المرئي في المرآة، ولكن ظهورها دلالتها عليه وشهادتها له، وإنها آيات له على نفسه، وصفاته سبحانه وبحمده، كما نطق بذلك كتاب الله.
الوجه الثالث: أن مقارنة الألف والنون المعبر عنها بـ [أنا] واللفظة التي هي [حقيقة النبوة] و [ الروح الإضافي ] هذه الأشياء داخلة في مسمى أسماء الله، بحيث تكون مما يدخل في مسمى أسمائه الظاهرة والمضمرة، أم ليست داخلة في مسمى أسمائه ؟ فإن كان الأول، فتكون جميع المخلوقات داخلة في مسمى أسماء الله، وتكون المخلوقات جزءاً من الله وصفة له، وإن كان الثاني، فهذه الأشياء معدومة،ليس لها وجود في أنفسها، فكيف يتصور أن تكون موجودة لا موجودة، ثابتة لا ثابتة، منتفية لا منتفية؟ وهذا تقسيم بين، وهو أحد ما يكشف حقيقة هذا التلبيس.
فإن هذه الأمور التي كانت معلومة له معدومة عند نزول الخلية ظهرت هذه الأمور التي ذكرها، فهذه الأمور الـظاهرة المعلومة بعد هذا النزول قد صارت [ أنا] وحقيقة نبوة، وروحاً إضافيا، وفعل ذات، ومفعول ذات، ومعنى وسائط، فإن كان جميع ذلك في الله، ففيه كفران عظيمان:
كون جميع المخلوقات جزءًا من الله.
وكونه متغيرًا هذه التغيرات، التي هي من نقص إلى كمال، ومن كمال إلى نقص، وإن كانت خارجة عن ذاته فهذه الأشياء كانت معدومة، ولم يخلقها ـ عندهم ـ خارجة عنه، فكيف يكون الحال ؟
الوجه الرابع: أن عقدة حقيقة النبوة وما معها: إما أن يكون شيئا قائما بنفسه، أو صفة له أو لغيره، فإن كان قائما بنفسه فإما أن يكون هو اللّه أو غيره، فإن كان ذلك هو الله فيكون الله هو النقطة الظاهرة، وهو حقيقة النبوة، وهو الروح الإضافي.
وقد قال بعد هذا: إنه جعل الروح الإضافي في صورة فعل ذاته، وأنه أعطى محمداً عقدة نبوته، فيكون قد جعل نفسه صورة فعله، وأعطى محمداً ذاته، وهذا مع أنه من أبين الكفر وأقبحه فهو متناقض، فمن المعطِي ومن المعطَى ؟ إذا كان أعطى ذاته لغيره، وإن كانت هذه الأشياء أعيانا قائمة بنفسها وهي غير الله ـ فسواء كانت ملائكة أوغيرها، من كل ما سوى الله من الأعيان، فهو خلق من خلق الله مصنوع مربوب، والله خالق كل شيء، فهو قد جعل ظهور الحق واصفا، وأنه المسمي باسم الرحمن، فيكون المسمى باسم الرحمن الواصف لنفسه مخلوقا، وهذا كفر صريح وهو أعظم من إلحاد الذين: {قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ } [الفرقان:60]، ومن إلحاد الذين قيل فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ} [الرعد:30]،فإن أولئك كفروا باسمه وصفته مع إقرارهم برب العالمين، وهؤلاء أقروا بالاسم وجعلوا المسمى مخلوقاً من مخلوقاته.
وأما إن كان المراد بهذه الحقيقة وما معها صفة: فإما أن تكون صفة لله أو لغيره، فإن كانت صفة لله لم يجز أن تكون هي المسمى باسم الرحمن، فإن ذلك اسم لنفس الله لا لصفاته، والسجود لله لا لصفاته، والدعاء لله لا لصفاته، وإن كانت صفة لغيره فهذا الإلزام أعظم وأعظم.
وهذا تقسيم لا محيص عنه، فإن هذا الملحد في أسماء الله جعل هذه العقدة التي سماها عقدة حقيقة النبوة وجعلها صورة علم الحق بنفسه، وجعلها مرآة لانعكاس الوجود المطلق، محلا لتميز صفاته القديمة، وأن الحق ظهر فيه بصورته وصفته واصفا يصف نفسه ويحيط به، وهو المسمى باسم الرحمن، ثم ذكر أنه أعطى محمداً هذه العقدة.
ومعلوم أن المسمى باسم الرحمن هو المسمى باسم الله كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } [الإسراء:110] فيكون هو سبحانه هذه العقدة التي أعطاها لمحمد، وإن كانت صفة له أو غيره، فتكون هي الرحمن، فهذا الملحد دائر بين أن يكون الرحمن هو خلق من خلق الله أو صفة من صفاته، وبين أن يكون الرحمن قد وهبه الله لمحمد، وكل من القسمين من أسمج الكفر وأبشعه.
الوجه الخامس: أن قوله: لهذه الحقيقة طرفان: طرف إلى الحق المواجه إليها، الذي ظهر فيه الوجود الأعلى واصفا، وطرف إلى ظهور العالم منه، وهو المسمى بالروح الإضافي.
فذكر في هذا الكلام ظهور الوجود وظهور العالم، وقد تقدم أن الحق كان ولم يكن معه شيء وهو متجلّ بنفسه بوحدته الذاتية، وأنه لما نزلت الخلية الإلهية، ظهرت عقدة حقيقة النبوة، فصارت مرآة لانعكاس الوجود، فظهر الحق فيه بصورة وصفه واصفا.
وقد ذكر في هذا الكلام الحق المواجه إليها والوجود الأعلى الذي ظهر في هذا الحق، والطرف الذي لها إلى الحق، فقد ذكر هنا ثلاثة أشياء: الحق، والوجود، والطرف، وقد جعل فيما تقدم: الحق هو الوجود المطلق الذي انعكس، وهو الحق الذي ظهر فيه واصفا، فتارة يجعل الحق هو الوجود المطلق، وتارة يجعل الوجود المطلق قد ظهر في هذا الحق، وهذا تناقض.
ثم يقال له: هذان عندك عبارة عن الرب تعالى، فقد جعلته ظاهرًا وجعلته مظهرًا، فإن عنيت بالظهور الوجود فيكون الرب قد وجد مرة بعد مرة، وهذا كفر شنيع، فكيف يتصور تكرر وجوده؟ وكيف يتصور أن يكون قد وجد في نفسه بعد أن لم يكن موجودا في نفسه ؟ وإن عنيت به الوضوح والتجلي، فليس هناك مخلوق يظهر له ويتجلى؛ إذ العالم بعد لم يخلق، وأنت قلت: ظهر الحق فيه واصفا، وسميته الرحمن، ولم تجعل ظهوره معلوما ولا مشهودا، فكيف يتصور أن يكون متجليا لنفسه بعد أن لم يكن متجليا؟ فإن هذا وصف له بأنه لم يكن يعلم نفسه حتى علمها.
وأيضا، فقد قلت: إنه كان متجليا لنفسه بوحدته، فهذا كفر وتناقض.
الوجه السادس:أن هذا التحير والتناقض مثل تحير النصارى، وتناقضهم في الأقانيم.
فإنهم يقولون: الآب والابن وروح القدس ثلاثة آلهة، وهي إله واحد.
والمتدرع بناسوت المسيح هو الابن، ويقولون: هي الوجود، والعلم، والحياة، والقدرة.
فيقال لهم: إن كانت هذه صفات فليست آلهة، ولا يتصور أن يكون المتدرع بالمسيح إلهاً، إلا أن يكون هو الآب، وإن كانت جواهر وجب ألا تكون إلها واحداً؛ لأن الجواهر الثلاثة لا تكون جوهراً واحداً، وقد يمثلون ذلك بقولنا: زيد العالم القادر الحي، فهو بكونه عالمًا ليس هو بكونه قادرًا.
فإذا قيل لهم: هذا كله لا يمنع أن يكون ذاتاً واحدة لها صفات متعددة، وأنتم لا تقولون ذلك.
وأيضا،فالمتحد بالمسيح إذا كان إلهاً امتنع أن يكون صفة، وإنما يكون هو الموصوف، وأنتم لا تقولون بذاك، فما هو الحق لا تقولونه، وما تقولونه ليس بحق، وقد قال تعالى:{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ َّ} [النساء:171].
فالنصارى حياري متناقضون،إن جعلوا الأقنوم صفة امتنع أن يكون المسيح إلهاً، وإن جعلوه جوهراً امتنع أن يكون الإله واحداً، وهم يريدون أن يجعلوا المسيح الله ويجعلوه ابن الله، ويجعلوا الآب والابن وروح القدس إلهًا واحدًا؛ ولهذا وصفهم الله في القرآن بالشرك تارة، وجعلهم قسما غير المشركين تارة؛ لأنهم يقولون الأمرين وإن كانوا متناقضين.
وهكذا حال هؤلاء، فإنهم يريدون أن يقولوا بالاتحاد وأنه ما ثم غير، ويريدون أن يثبتوا وجود العالم، فجعلوا ثبوت العالم في علمه وهو شاهد له، وجعلوه متجليا لذلك المشهود له، فإذا تجلى فيه كان هو المتجلي لا غيره، وكانت تلك الأعيان المشهودة هي العالم.
وهذا الرجل، وابن عربي، يشتركان في هذا، ولكن يفترقان من وجه آخر.
فإن ابن عربي يقول:وجود الحق ظهر في الأعيان الثابتة في نفسها، فإن شئت قلت: هو الحق، وإن شئت قلت: هو الخلق، وإن شئت قلت: هو الحق والخلق، وإن شئت قلت: لا حق من كل وجه، ولا خلق من كل وجه، وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك.
وأما هذا فإنه يقول: تجلى الأعيان المشهودة له، فقد قالا في جميع الخلق ما يشبه قول ملكية النصارى في المسيح، حيث قالوا بأن اللاهوت والناسوت صارا جوهرًا واحدًا له أقنومان.
وأما التلمساني فإنه لا يثبت تعددًا بحال، فهو مثل يَعَاقِبَه النصارى، وهم أكفرهم، والنصارى قالوا بذلك في شخص واحد، وقالوا: إن اللاهوت يتدرع بالناسوت بعد أن لم يكن متدرعا به.
وهؤلاء قالوا: إنه في جميع العالم، وإنه لم يزل، فقالوا بعموم ذلك ولزومه، والنصارى قالوا بخصوصه وحدوثه، حتى قال قائلهم: النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا.
وهذا المعنى قد ذكره ابن عربي في غير موضع من الفصوص، وذكر أن إنكار الأنبياء على عُبّاد الأصنام إنما كان لأجل التخصيص، وإلا فالعارف المكمل من عبده في كل مظهر، وهو العابد والمعبود، وأن عباد الأصنام لو تركوا عبادتهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منها، وأن موسى إنما أنكر على هارون لكون هارون نهاهم عن عبادة العجل، لضيق هارون، وعلم موسى بأنهم ما عبدوا إلا الله، وأن هارون إنما لم يسلط على العجل ليعبدوا الله في كل صورة، وإن أعظم مظهر عبد فيه هو الهوى، فما عبد أعظم من الهوى، لكن ابن عربي يثبت أعيانًا ثابتة في العدم.
وهذا ابن حمويه إنما أثبتها مشهودة في العلم فقط، وهذا القول هو الصحيح، لكن لا يتم معه ما طلبه من الاتحاد، ولهذا كان هو أبعدهم عن تحقيق الاتحاد وأقرب إلى الإسلام، وإن كان أكثرهم تناقضًا وهذيانًا، فكثرة الهذيان خير من كثرة الكفر.
ومقتضى كلامه هذا:أنه جعل وجوده مشروطًا بوجود العالم، وإن كان له وجود ما غير العالم، كما أن نور العين مشروط بوجود الأجفان وإن كان قائما بالحدقة، فعلى هذا يكون الله مفتقرًا إلى العالم محتاجًا إليه كاحتياج نور العين إلى الجفنين، وقد قال الله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءِ}إلى آخر الآية [آل عمران: 181].
فإذا كان هذا قوله فيمن وصفه بأنه فقير إلى أموالهم ليعطيها الفقراء، فكيف قوله فيمن جعل ذاته مفتقرة إلى مخلوقاته، بحيث لولا مخلوقاته لانتشرت ذاته، وتفرقت وعدمت، كما ينتشر نور العين ويتفرق، ويعدم إذا عدم الجفن؟
وقد قال في كتابه:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا} الآية [فاطر:41]. فمن يمسك السموات والأرض؟ وَقَالَ فِي كِتَابه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ٌ} الآية [الروم:25]. وقال: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2] وقال:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعلى الْعَظِيمُ} [البقرة:255] لا يؤوده: لا يثقله ولا يكرثه.
وقد جاء في الحديث، حديث أبي داود: (ما السموات والأرض وما بينهما في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش كتلك الحلقة في الفلاة). وقد قال في كتابه:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}الآية [الزمر:67].
وقد ثبت في الصحاح من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود: (إن اللَّهَ يَمْسِكُ السَّمَواتِ والأرْضَ بِيَدِهِ) فمن يكون في قبضته السموات والأرض، وكرسيه قد وسع السموات والأرض، ولا يؤوده حفظهما، وبأمره تقوم السماء والأرض، وهو الذي يمسكهما أن تزولا، أيكون محتاجًا إليهما مفتقرًا إليهما، إذا زالا ت