المصدر : مجموع فتاوى ابن تيمية
موضوع الفتوى : العقيدة
الكتاب : كتاب توحيد الألوهية

السؤال :

فصــل في أن الانحراف عن الوسط واقع بين الناس في أكثر الأمور



الجواب :

قاعــــدة‏:‏
الانحراف عن الوسط كثير في أكثر الأمور، في أغلب الناس، مثل تقابلهم في بعض الأفعال، يتخذها بعضهم دينًا واجبًا، أو مُستحبًا، أو مأمورًا به في الجملة، وبعضهم يعتقدها حرامًا مكروهًا، أو محرمًا، أو منهيًا عنه في الجملة‏.‏
مثال ذلك‏:‏ سماع الغناء، فإن طائفة من المتصوفة، والمتفقرة تتخذه دينًا، وإن لم تقل بألسنتها، أو تعتقد بقلوبها أنه قربة ، فإن دينهم حال لا اعتقاد؛ فحالهم وعملهم هو استحسانها في قلوبهم، ومحبتهم لها، ديانة وتقربًا إلى الله، وإن كان بعضهم قد يعتقد ذلك، ويقوله بلسانه‏.‏
وفيهم من يعتقد ، ويقول‏:‏ ليس قربة ، لكن حالهم هو كونه قربة، ونافعًا في الدين، ومصلحًا للقلوب‏.‏
ويغلو فيه من يغلو ، حتى يجعل التاركين له كلهم خارجين عن ولاية الله، وثمراتها من المنازل العلية‏.‏
بإزائهم من ينكر جميع أنواع الغناء ويحرمه، ولا يفصل بين غناء الصغير والنساء في الأفراح، وغناء غيرهن وغنائهن في غير الأفراح‏.‏
ويغلو من يغلو في فاعليه حتى يجعلهم كلهم فساقًا أو كفارًا‏.‏
وهذان الطرفان من اتخاذ ما ليس بمشروع دينًا، أو تحريم ما لم يحرم، دين الجاهلية والنصارى، الذي عابه الله عليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 35‏]‏، وقال تعالى فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث عياض بن حمار ـ‏:‏ ‏(‏إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا‏)‏ وقال في حق النصارى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏‏.‏
ومثال ذلك أن يحصل من بعضهم تقصير في المأمور أو اعتداء في المنهي؛ إما من جنس الشبهات، وإما من جنس الشهوات، فيقابل ذلك بعضهم بالاعتداء في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر، أو بالتقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏
والتقصير والاعتداء ـ إما في المأمور به والمنهي عنه شرعًا، وإما في نفس أمر الناس ونهيهم ـ هو الذي استحق به أهل الكتاب العقوبة، حيث قال‏:‏ ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61‏]‏ فجعل ذلك بالمعصية، والاعتداء، والمعصية مخالفة الأمر، وهو التقصير، والاعتداء مجاوزة الحد‏.‏
وكذلك يضمن كل مؤتمن على مال إذا قصر وفرط فيما أمر به وهو المعصية، إذا اعتدى بخيانة أو غيرها؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏، فالإثم هو المعصية‏.‏ والله أعلم‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم محارم فلا تنتهكوها وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها‏)‏، فالمعصية تضييع الفرائض، وانتهاك المحارم، وهو مخالفة الأمر والنهي، والاعتداء مجاوزة حدود المباحات‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، فالمعصية مخالفة أمره ونهيه، والاعتداء مجاوزة ما أحله إلى ما حرمه وكذلك قوله ـ والله أعلم‏:‏ ‏{‏ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 147‏]‏، فالذنوب‏:‏ المعصية، والإسراف‏:‏ الاعتداء ومجاوزة الحد‏.‏
واعلم أن ‏[‏مجاوزة الحد‏]‏ هي نوع من مخالفة النهي؛ لأن اعتداء الحد محرم منهي عنه، فيدخل في قسم المنهي عنه، لكن المنهي عنه قسمان‏:‏
منهي عنه مطلقًا كالكفر، فهذا فعله إثم، ومنهي عنه‏.‏
وقسم أبيح منه أنواع ومقادير ، وحرم الزيادة على تلك الأنواع والمقادير، فهذا فعله عدوان‏.‏
وكذلك قد يحصل العدوان في المأمور به كما يحصل في المباح، فإن الزيادة على المأمور به قد يكون عدوانًا محرمًا، وقد يكون مباحًا مطلقًا، وقد يكون مباحًا إلى غاية، فالزيادة عليها عدوان‏.‏
ولهذا التقسيم قيل في ‏[‏الشريعة‏]‏‏:‏ هي الأمر والنهي، والحلال والحرام، والفرائض والحدود، والسنن والأحكام‏.‏
و‏[‏الفرائض‏]‏‏:‏ هي المقادير في المأمور به، و‏[‏الحدود‏]‏‏:‏ النهايات لما يجوز من المباح المأمور به وغير المأمور به‏.‏
 







أتى هذا المقال من شبكة الفرقان السلفية
http://www.elforqane.net

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.elforqane.net/fatawa-1045.html