المصدر : مجموع فتاوى ابن تيمية
موضوع الفتوى : العقيدة الكتاب : كتاب توحيد الألوهية
السؤال :
فصــل: في أن الرسل إما أنهم علموا الحقائق الخبرية والطلبية، أو لم يعلموها
الجواب :
وتلخيص النكتة: أن الرسل إما أنهم علموا الحقائق الخبرية والطلبية، أو لم يعلموها، وإذا علموها، فإما أنه كان يمكنهم بيانها بالكلام والكتاب، أو لا يمكنهم ذلك، وإذا أمكنهم ذلك البيان، فإما أن يمكن للعامة وللخاصة، أو للخاصة فقط. فإن قال: إنهم لم يعلموها، وإن الفلاسفة والمتكلمين أعلم بها منهم، وأحسن بيانًا لها منهم، فلاريب أن هذا قول الزنادقة المنافقين. وسنتكلم معهم بعد هذا ؛إذ الخطاب هنا لبيان أن هذا قول الزنادقة، وأنه لا يقوله إلا منافق أو جاهل. وإن قال: إن الرسل مقصدهم صلاح عموم الخلق، وعموم الخلق لا يمكنهم فهم هذه الحقائق الباطنة، فخاطبوهم بضرب الأمثال؛ لينتفعوا بذلك، وأظهروا الحقائق العقلية في القوالب الحسية، فتضمن خطابهم عن الله وعن اليوم الآخر، من التخييل والتمثيل للمعقول بصورة المحسوس ما ينتفع به عموم الناس في أمر الإيمان بالله وبالمعاد. وذلك يقرر في النفوس من عظمة الله وعظمة اليوم الآخر ما يحض النفوس على عبادة الله، وعلى الرجاء والخوف؛ فينتفعون بذلك، وينالون السعادة بحسب إمكانهم واستعدادهم؛ إذ هذا الذي فعلته الرسل هو غاية الإمكان في كشف الحقائق لعموم النوع البشرى، ومقصود الرسل حفظ النوع البشري، وإقامة مصلحة معاشه ومعاده. فمعلوم أن هذا قول حُذَّاق الفلاسفة، مثل: الفارابي، وابن سينا وغيرهما، وهو قول كل حاذق وفاضل من المتكلمين في القدر الذي يخالف فيه أهل الحديث. فالفارابي يقول: إن خاصة النبوة جودة تخييل الأمور المعقولة في الصور المحسوسة أو نحو هذه العبارة. وابن سينا يذكر هذا المعنى في مواضع، ويقول: ما كان يمكن موسى بن عمران مع أولئك العبرانيين، ولا يمكن محمد مع أولئك العرب الجفاة، أن يبينا لهم الحقائق على ما هي عليه، فإنهم كانوا يعجزون عن فهم ذلك، وإن فهموه على ما هو عليه انحلت عزماتهم عن اتباعه؛ لأنهم لايرون فيه من العلم ما يقتضي العمل. وهذا المعنى يوجد في كلام أبي حامد الغزالي وأمثاله، ومن بعده طائفة منه في الإحياء وغير الإحياء، وكذلك في كلام الرازي. وأما الاتحادية ونحوهم من المتكلمين، فعليه مدارهم، ومبنى كلام الباطنية والقرامطة عليه، لكن هؤلاء ينكرون ظواهر الأمور العملية والعلمية جميعًا، وأما غير هؤلاء فلا ينكرون العمليات الظاهرة المتواترة، لكن قد يجعلونها لعموم الناس لا لخصوصهم، كما يقولون مثل ذلك في الأمور الخبرية. ومدار كلامهم على أن الرسالة متضمنة لمصلحة العموم علماً وعملاً، وأما الخاصة فلا. وعلى هذا يدور كلام أصحاب [رسائل إخوان الصفا] وسائر فضلاء المتفلسفة. ثم منهم من يوجب اتباع الأمور العملية من الأمور الشرعية، وهؤلاء كثيرون في متفقهتهم ومتصوفتهم وعقلاء فلاسفتهم. وإلى هنا كان ينتهي علم ابن سينا؛ إذ تاب والتزم القيام بالواجبات الناموسية، فإن قدماء الفلاسفة كانوا يوجبون اتباع النواميس التي وضعها أكابر حكماء البلاد، فلأن يوجبوا اتباع نواميس الرسل أولى. فإنهم ـ كماقال ابن سينا: اتفق فلاسفة العالم على أنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من هذا الناموس المحمدي. وكل عقلاء الفلاسفة متفقون على أنه أكمل وأفضل النوع البشري، وأن جنس الرسل أفضل من جنس الفلاسفة المشاهير، ثم قد يزعمون أن الرسل والأنبياء حكماء كبار، وأن الفلاسفة الحكماء أنبياء صغار، وقد يجعلونهم صنفين. وليس هذا موضع شرح ذلك، فقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع. وإنما الغرض أن هؤلاء الأساطين من الفلاسفة والمتكلمين، غاية ما يقولون هذا القول، ونحن ذكرنا الأمر على وجه التقسيم العقلي الحاصر لئلا يخرج عنه قسم؛ ليتبين أن المخالف لعلماء الحديث علما وعملاً، إما جاهل، وإما منافق، والمنافق جاهل وزيادة، كما سنبينه ـ إن شاء الله ـ والجاهل هنا فيه شعبة نفاق، وإن كان لا يعلم بها فالمنكر لذلك جاهل منافق. فقلنا: إن من زعم أنه وكبار طائفته أعلم من الرسل بالحقائق، وأحسن بيانًا لها، فهذا زنديق منافق إذا أظهر الإيمان بهم باتفاق المؤمنين، وسيجىء الكلام معه. وإن قال: إن الرسل كانوا أعظم علمًا وبيانًا، لكن هذه الحقائق لا يمكن علمها، أو لا يمكن بيانها مطلقًا، أو يمكن الأمران للخاصة. قلنا: فحينئذ لا يمكنكم أنتم ما عجزت عنه الرسل من العلم والبيان. إن قلتم: لا يمكن علمها. قلنا: فأنتم وأكابركم لايمكنكم علمها بطريق الأولى. وإن قلتم: لا يمكنهم بيانها. قلنا: فأنتم وأكابركم لا يمكنكم بيانها. وإن قلتم: يمكن ذلك للخاصة دون العامة. قلنا: فيمكن ذلك من الرسل للخاصة دون العامة. فإن ادعوا أنه لم يكن في خاصة أصحاب الرسل من يمكنهم فهم ذلك، جعلوا السابقين الأولين دون المتأخرين في العلم والإيمان. وهذا من مقالات الزنادقة؛ لأنه قد جعل بعض الأمم الأوائل من اليونان والهند ونحوهم أكمل عقلاً وتحقيقًا للأمور الإلهية وللعبادية من هذه الأمة، فهذا من مقالات المنافقين الزنادقة؛ إذ المسلمون متفقون على أن هذه الأمة خير الأمم وأكملهم، وأن أكمل هذه الأمة وأفضلها هم سابقوها. وإذا سلم ذلك، فأعلم الناس بالسابقين وأتبعهم لهم هم: أهل الحديث وأهل السنة؛ ولهذا قال الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك: أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة ضلالة، والسنة عندنا: آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنة تفسر القرآن، وهي دلائل القرآن، أي: دلالات على معناه. ولهذا ذكر العلماء أن الرفض أساس الزندقة، وأن أول من ابتدع الرفض إنما كان منافقًا زنديقًا، وهو عبد الله بن سَبَأ؛ فإنه إذا قدح في السابقين الأولين فقد قدح في نقل الرسالة، أو في فهمها، أو في اتباعها. فالرافضة تقدح تارة في علمهم بها، وتارة في اتباعهم لها ـ وتحيل ذلك على أهل البيت وعلى المعصوم الذي ليس له وجود في الوجود. والزنادقة من الفلاسفة والنصيرية وغيرهم، يقدحون تارة في النقل، وهو قول جهالهم، وتارة يقدحون في فهم الرسالة، وهو قول حُذَّاقهم، كما يذهب إليه أكابر الفلاسفة والاتحادية ونحوهم، حتى كان التلمساني مرة مريضًا، فدخل عليه شخص ومعه بعض طلبة الحديث، فأخذ يتكلم على قاعدته في الفكر أنه حجاب، وأن الأمر مداره على الكشف، وغرضه كشف الوجود المطلق، فقال ذلك الطالب: فما معنى قول أم الدرداء: أفضل عمل أبي الدرداء التفكر؟ فتبرم بدخول مثل هذا عليه، وقال للذي جاء به: كيف يدخل عليَّ مثل هذا؟ ثم قال: أتدري يا بني ما مثل أبي الدرداء وأمثاله؟ مثلهم مثل أقوام سمعوا كلامًا وحفظوه لنا، حتى نكون نحن الذين نفهمه ونعرف مراد صاحبه، ومثل بريد حمل كتابًا من السلطان إلى نائبه، أو نحو ذلك، فقد طال عهدي بالحكاية، حدثني بها الذي دخل عليه وهو ثقة يعرف ما يقول في هذا. وكان له في هذه الفنون جَوَلانٌ كثير. وكذلك ابن سينا، وغيره، يذكر من التنقص بالصحابة ما ورثه من أبيه وشيعته القرامطة، حتى تجدهم إذا ذكروا في آخر الفلسفة حاجة النوع الإنساني إلى الإمامة، عرضوا بقول الرافضة الضلال، لكن أولئك يصرحون من السب بأكثر مما يصرح به هؤلاء. ولهذا تجد بين [الرافضة] و[القرامطة] و[الاتحادية] اقترانًا واشتباهًا. يجمعهم أمور: منها: الطعن في خيار هذه الأمة، وفيما عليه أهل السنة والجماعة، وفيما استقر من أصول الملة وقواعد الدين، ويدعون باطنا امتازوا به واختصوا به عمن سواهم، ثم هم مع ذلك متلاعنون، متباغضون مختلفون، كما رأيت وسمعت من ذلك ما لا يحصى، كما قال الله عن النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14]، وقال عن اليهود: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ} [المائدة:64]. وكذلك المتكلمون المخلطون الذين يكونون تارة مع المسلمين ـ وإن كانوا مبتدعين، وتارة مع الفلاسفة الصابئين، وتارة مع الكفار المشركين، وتارة يقابلون بين الطوائف وينتظرون لمن تكون الدائرة، وتارة يتحيرون بين الطوائف، وهذه الطائفة الأخيرة قد كثرت في كثير ممن انتسب إلى الإسلام من العلماء والأمراء وغيرهم، لاسيما لما ظهر المشركون من الترك على أرض الإسلام بالمشرق في أثناء المائة السابعة. وكان كثير ممن ينتسب إلى الإسلام فيه من النفاق والردة ما أوجب تسليط المشركين وأهل الكتاب على بلاد المسلمين. فتجد أبا عبد الله الرازي يطعن في دلالة الأدلة اللفظية على اليقين، وفي إفادة الأخبار للعلم، وهذان هما مقدمتا الزندقة ـ كما قدمناه ـ ثم يعتمد فيما أقر به من أمور الإسلام على ما علم بالاضطرار من دين الإسلام، مثل العبادات والمحرمات الظاهرة، وكذلك الإقرار بمعاد الأجساد ـ بعد الاطلاع على التفاسير والأحاديث ـ يجعل العلم بذلك مستفادًا من أمور كثيرة، فلا يعطل تعطيل الفلاسفة الصابئين، ولا يقر إقرار الحنفاء العلماء المؤمنين. وكذلك[الصحابة]، وإن كان يقول بعدالتهم فيما نقلوه وبعلمهم في الجملة لكن يزعم في مواضع: أنهم لم يعلموا شبهات الفلاسفة وما خاضوا فيه؛ إذ لم يجد مأثورًا عنهم التكلم بلغة الفلاسفة، ويجعل هذا حجة له في الرد على من زعم. . .[بياض]. وكذلك هذه المقالات لا تجدها إلا عند أجهل المتكلمين في العلم، وأظلمهم من هؤلاء المتكلمة والمتفلسفة والمتشيعة والاتحادية في الصحابة، مثل قول كثير من العلماء والمتأمرة: أنا أشجع منهم، وإنهم لم يقاتلوا مثل العدو الذي قاتلناه، ولا باشروا الحروب مباشرتنا، ولا ساسوا سياستنا، وهذا لا تجده إلا في أجهل الملوك وأظلمهم. فإنه إن أراد أن نفس ألفاظهم، وما يتوصلون به إلى بيان مرادهم من المعاني لم يعلموه، فهذا لا يضرهم؛ إذ العلم بلغات الأمم ليس مما يجب على الرسل وأصحابهم، بل يجب منه ما لا يتم التبليغ إلا به، فالمتوسطون بينهم من التراجمة يعلمون لفظ كل منهما ومعناه. فإن كان المعنيان واحدًا كالشمس والقمر، وإلا علموا ما بين المعنيين من الاجتماع والافتراق، فينقل لكل منهما مراد صاحبه، كما يصور المعاني ويبين ما بين المعنيين من التماثل، والتشابه، والتقارب. فالصحابة كانوا يعلمون ما جاء به الرسول، وفيما جاء به بيان الحجة على بطلان كفر كل كافر، وبيان ذلك بقياس صحيح أحق وأحسن بيانًا من مقاييس أولئك الكفار؛ كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]، أخبر ـ سبحانه ـ أن الكفار لا يأتونه بقياس عقلي لباطلهم إلا جاءه الله بالحق، وجاءه من البيان والدليل، وضرب المثل بما هو أحسن تفسيرًا وكشفًا وإيضاحًا للحق من قياسهم. وجميع ما تقوله الصابئة والمتفلسفة وغيرهم من الكفار ـ من حكم أو دليل ـ يندرج فيما علمه الصحابة. وهذه الآية ذكرها الله تعالى بعد قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:30، 31]، فبين أن من هجر القرآن فهو من أعداء الرسول، وأن هذه العداوة أمر لابد منه، ولا مفر عنه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27-29]. والله ـ تعالى ـ قد أرسل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى جميع العالمين، وضرب الأمثال فيما أرسله به لجميعهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر:27]، فأخبر أنه ضرب لجميع الناس في هذا القرآن من كل مثل. ولا ريب أن الألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات، كالسلاح في المحاربات. فإذا كان عدو المسلمين ـ في تحصنهم وتسلحهم ـ على صفة غير الصفة التي كانت عليها فارس والروم، كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة التي مبناها على تحري ما هو لله أطوع وللعبد أنفع، وهو الأصلح في الدنيا والآخرة. وقد يكون الخبير بحروبهم أقدر على حربهم ممن ليس كذلك، لا لفضل قوته وشجاعته، ولكن لمجانسته لهم، كما يكون الأعجمي المتشبه بالعرب ـ وهم خيار العجم ـ أعلم بمخاطبة قومه الأعاجم من العربي، وكما يكون العربي المتشبه بالعجم ـ وهم أدنى العرب ـ أعلم بمخاطبة العرب من العجمي. فقد جاء في الحديث: (خيار عجمكم المتشبهون بعربكم، وشرار عربكم المتشبهون بعجمكم). ولهذا لما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم [الطائف] رماهم بالمنجنيق، وقاتلهم قتالاً لم يقاتل غيرهم مثله في المزاحفة كيوم بدر وغيره، وكذلك لما حوصر المسلمون عام [الخندق] اتخذوا من الخندق ما لم يحتاجوا إليه في غير الحصار. وقيل: إن سلمان أشار عليهم بذلك، فسلموا ذلك له ؛ لأنه طريق إلى فعل ما أمر الله به ورسوله. وقد قررنا في قاعدة [السنة والبدعة]: أن البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله، وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك. وسواء كان هذا مفعولاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن، فما فعل بعده بأمره ـ من قتال المرتدين، والخوارج المارقين، وفارس والروم والترك، وإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وغير ذلك ـ هو من سنته. ولهذا كان عمر بن عبد العزيز يقول: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سننًا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله. ليس لأحد تغييرها ولا النظر في رأي من خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا. فسنة خلفائه الراشدين هي: مما أمر الله به ورسوله، وعليه أدلة شرعية مفصلة ليس هذا موضعها. فكما أن الله بين في كتابه مخاطبة أهل الكتاب، وإقامة الحجة عليهم بما بينه من أعلام رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبما في كتبهم من ذلك، وما حرفوه وبدلوه من دينهم، وصدق بما جاءت به الرسل قبله، حتى إذا سمع ذلك الكتابي العالم المنصف وجد ذلك كله من أبين الحجة وأقوم البرهان. والمناظرة والمحاجة لا تنفع إلا مع العدل والإنصاف، وإلا فالظالم يجحد الحق الذي يعلمه، وهو المسفسط والمقرمط، أو يمتنع عن الاستماع والنظر في طريق العلم، وهو المعرض عن النظر والاستدلال. فكما أن الإحساس الظاهر لا يحصل للمعرض ولا يقوم للجاحد، فكذلك الشهود الباطن لا يحصل للمعرض عن النظر والبحث، بل طالب العلم يجتهد في طلبه من طرقه؛ ولهذا سمى مجتهدًا، كما يسمى المجتهد في العبادة وغيرها مجتهدًا، كما قال بعض السلف: ما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيهم، وقال أبي ابن كعب وابن مسعود: اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، وقال معاذ بن جبل، ويروى مرفوعًا، وهو محفوظ عن معاذ: عليكم بالعلم، فإن تعليمه حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة. فجعل الباحث عن العلم مجاهدًا في سبيل الله. ولما كانت المحاجة لا تنفع إلا مع العدل، قال تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، فالظالم ليس علينا أن نجادله بالتي هي أحسن. وإذا حصل من مسلمة أهل الكتاب، الذين علموا ما عندهم بلغتهم، وترجموا لنا بالعربية، انتفع بذلك في مناظرتهم ومخاطبتهم، كما كان عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وكعب الأحبار، وغيرهم، يحدثون بما عندهم من العلم، وحينئذ يستشهد بما عندهم على موافقة ما جاء به الرسول، ويكون حجة عليهم من وجه، وعلى غيرهم من وجه آخر، كما بيناه في موضعه. والألفاظ العبرية تقارب العربية بعض المقاربة، كما تتقارب الأسماء في الاشتقاق الأكبر. وقد سمعت ألفاظ التوراة بالعبرية من مسلمة أهل الكتاب، فوجدت اللغتين متقاربتين غاية التقارب، حتى صرت أفهم كثيرًا من كلامهم العبري بمجرد المعرفة بالعربية. والمعاني الصحيحة، إما مقاربة لمعاني القرآن، أو مثلها، أو بعينها، وإن كان في القرآن من الألفاظ والمعاني خصائص عظيمة. فإذا أراد المجادل منهم أن يذكر ما يطعن في القرآن بنقل أوعقل، مثل أن ينقل عما في كتبهم عن الأنبياء ما يخالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، أو خلاف ما ذكره الله في كتبهم، كزعمهم للنبي صلى الله عليه وسلم أن الله أمرهم بتحميم [أي: جعل وجهه أسود. يقال: حَمَمْتُ وجهه تحميمًا: إذا سودته بالفحم] الزاني دون رجمه، أمكن للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يطلبوا التوراة ومن يقرؤها بالعربية ويترجمها من ثقات التراجمة، كعبد الله ابن سلام ونحوه، لما قال لحبرهم: ارفع يدك عن آية الرجم، فإذا هي تلوح، ورجم النبي صلى الله عليه وسلم الزانيين منهما، بعد أن قام عليهم الحجة من كتابهم، وذلك أنه موافق لما أنزل الله عليه من الرجم، وقال: (اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه)، ولهذا قال ابن عباس في قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} [المائدة: 44]، قال ـ: محمد صلى الله عليه وسلم، من النبيين الذين أسلموا، وهو لم يحكم إلا بما أنزل الله عليه، كما قال: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ} [المائدة: 49]. وكذلك يمكن أن يقرأ من نسخة مترجمة بالعربية، قد ترجمها الثقات بالخط واللفظ العربيين يعلم بهما ما عندهم بواسطة المترجمين الثقات من المسلمين، أو ممن يعلم خطهم منا، كزيد بن ثابت، ونحوه، لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم ذلك، والحديث معروف في السنن، وقد احتج به البخاري في]باب ترجمة الحاكم، وهل يجوز ترجمان؟[، قال: وقال خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت: أن النبي أمره أن يتعلم كتاب اليهود، حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه. والمكاتبة بخطهم والمخاطبة بلغتهم من جنس واحد، وإن كانا قد يجتمعان وقد ينفرد أحدهما عن الآخر، مثل كتابة اللفظ العربي بالخط العبري وغيره من خطوط الأعاجم، وكتابة اللفظ العجمي بالخط العربي، وقيل: يكتفي بذلك؛ ولهذا قال سبحانه: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] فأمرنا أن نطلب منهم إحضار التوراة وتلاوتها، إن كانوا صادقين في نقل ما يخالف ذلك، فإنهم كانوا: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران:78]، و{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ} [البقرة:79]، ويكذبون في كلامهم وكتابهم؛ فلهذا لا تقبل الترجمة إلا من ثقة. فإذا احتج أحدهم على خلاف القرآن برواية عن الرسل المتقدمين، مثل الذي يروى عن موسى أنه قال: (تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض) أمكننا أن نقول لهم: في أي كتاب هذا ؟ أحضروه ـ وقد علمنا أن هذا ليس في كتبهم وإنما هو مفترى مكذوب وعندهم النبوات التي هي مائتان وعشرون، و[كتاب المثنوي] الذي معناه المثناة، وهي التي جعلها عبد الله بن عمرو فينا من أشراط الساعة، فقال: لا تقوم الساعة حتي يقرأ فيهم بالمثناة، ليس أحد يغيرها، قيل: وما المثناة ؟ قال: ما استكتب من غير كتاب الله. وكذلك إذا سئلوا عما في الكتاب من ذكر أسماء الله وصفاته لتقام الحجة عليهم وعلى غيرهم، بموافقة الأنبياء المتقدمين لمحمد صلى الله عليه وسلم، فحرفوا الكلم عن مواضعه، أمكن معرفة ذلك، كما تقدم. وإن ذكروا حجة عقلية فهمت ـ أيضًا ـ مما في القرآن بردها إليه، مثل إنكارهم للنسخ بالعقل، حتى قالوا: لا ينسخ ما حرمه، ولا ينهي عما أمر به، فقال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة:142]. قال البراء بن عازب ـ كما في الصحيحين: هم اليهود ؛ فقال سبحانه: {قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة:142]. فذكر ما في النسخ من تعليق الأمر بالمشيئة الإلهية، ومن كون الأمر الثاني قد يكون أصلح وأنفع، فقوله: {يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} بيان للأصلح الأنفع، وقوله: {مَن يَشَاء} رد للأمر إلى المشيئة. وعلى بعض ما في الآية اعتماد جميع المتكلمين حيث قالوا: التكليف إما تابع لمحض المشيئة، كما يقوله قوم، أو تابع للمصلحة، كما يقوله قوم، وعلى التقديرين فهو جائز. ثم إنه ـ سبحانه ـ بَيَّنَ وقوع النسخ بتحريم الحلال في التوراة، بأنه أحل لإسرائيل أشياء ثم حرمها في التوراة، وأن هذا كان تحليلاً شرعيًا بخطاب، لم يكونوا استباحوه بمجرد البقاء على الأصل، حتى لا يكون رفعه نسخًا، كما يدعيه قوم منهم، وأمر بطلب التوراة في ذلك. وهكذا وجدناه فيها، كما حدثنا بذلك مسلمة أهل الكتاب في غير موضع. وهكذا مناظرة الصابئة الفلاسفة، والمشركين، ونحوهم، فإن الصابئ الفيلسوف إذا ذكر ما عند قدماء الصابئة الفلاسفة من الكلام ـ الذي عُرِّب وتُرْجم بالعربية وذكره ـ إما صرفًا، وإما على الوجه الذي تَصَّرف فيه متأخروهم بزيادة أو نقصان، وبَسْطٍ واختصار، ورد بعضه وإتيان بمعان أخر، ليست فيه ونحو ذلك ـ فإن ذكْر ما لا يتعلق بالدين، مثل مسائل[الطب] و[الحساب] المحض التي يذكرون فيها ذلك، وكتب من أخذ عنهم، مثل محمد بن زكريا الرازي، وابن سينا ونحوهما من الزنادقة الأطباء ما غايته، انتفاع بآثار الكفار والمنافقين في أمور الدنيا، فهذا جائز. كما يجوز السكنى في ديارهم، ولبس ثيابهم وسلاحهم، وكما تجوز معاملتهم على الأرض، كما عامل النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر، وكما استأجر النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر ـ لما خرجا من مكة مهاجِرَيْن ـ [ابن أُريْقط] رجلاً من بني الديِّل هاديًا خِرِّيتًا، والخريت: الماهر بالهداية، وائتمناه على أنفسهما ودوابهما، ووعداه غار ثور صبح ثالثة، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمهم وكافرهم، وكان يقبل نصحهم، وكل هذا في الصحيحين، وكان أبو طالب ينصر النبي صلى الله عليه وسلم ويَذُبُّ عنه مع شركه، و هذا كثير. فإن المشركين وأهل الكتاب فيهم المؤتمن، كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا} [آل عمران:75]، ولهذا جاز ائتمان أحدهم على المال، وجاز أن يستطب المسلمُ الكافرَ إذا كان ثقة، نص على ذلك الأئمة، كأحمد وغيره؛ إذ ذلك من قبول خبرهم فيما يعلمونه من أمر الدنيا وائتمان لهم على ذلك، وهو جائز إذا لم يكن فيه مفسدة راجحة، مثل ولايته على المسلمين، وعلوه عليهم ونحو ذلك. فأخذ علم الطب من كتبهم مثل الاستدلال بالكافر على الطريق واستطبابه، بل هذا أحسن؛ لأن كتبهم لم يكتبوها لمعين من المسلمين حتى تدخل فيها الخيانة، وليس هناك حاجة إلى أحد منهم بالخيانة، بل هي مجرد انتفاع بآثارهم، كالملابس والمساكن والمزارع والسلاح ونحو ذلك. وإن ذكروا ما يتعلق بالدين، فإن نقلوه عن الأنبياء كانوا فيه كأهل الكتاب وأسوأ حالا، وإن أحالوا معرفته على القياس العقلي، فإن وافق ما في القرآن فهو حق، وإن خالفه ففي القرآن بيان بطلانه بالأمثال المضروبة، كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]، ففي القرآن الحق، والقياس البين الذي يبين بطلان ما جاؤوا به من القياس، وإن كان ما يذكرونه مجملاً فيه الحق ـ وهو الغالب على الصابئة المبدلين، مثل[أرسطو] وأتباعه، وعلى من اتبعهم من الآخرين ـ قبل الحق ورد الباطل، والحق من ذلك لا يكون بيان صفة الحق فيه كبيان صفة الحق في القرآن. فالأمر في هذا موقوف على معرفة القرآن ومعانيه وتفسيره وترجمته. والترجمة والتفسير ثلاث طبقات: أحدها: ترجمة مجرد اللفظ، مثل نقل اللفظ بلفظ مرادف، ففي هذه الترجمة تريد أن تعرف أن الذي يعني بهذا اللفظ عند هؤلاء هو بعينه الذي يعنى باللفظ عند هؤلاء، فهذا علم نافع؛ إذ كثير من الناس يقيد المعنى باللفظ، فلا يجرده عن اللفظين جميعًا. والثاني: ترجمة المعنى وبيانه، بأن يصور المعنى للمخاطب، فتصوير المعنى له وتفهيمه إياه قدر زائد على ترجمة اللفظ، كما يشرح للعربي كتابًا عربيًا قد سمع ألفاظه العربية، لكنه لم يتصور معانيه ولا فهمها، وتصوير المعني يكون بذكر عينه أو نظيره؛ إذ هو تركيب صفات من مفردات يفهمها المخاطب يكون ذلك المركب صور ذلك المعنى، إما تحديدًا وإما تقريبًا. الدرجة الثالثة: بيان صحة ذلك وتحقيقه، بذكر الدليل والقياس الذي يحقق ذلك المعنى، إما بدليل مجرد وإما بدليل يبين علة وجوده. وهنا قد يحتاج إلى ضرب أمثلة ومقاييس تفيده التصديق بذلك المعنى، كما يحتاج في [الدرجة الثانية] إلى أمثلة تصور له ذلك المعنى. وقد يكون نفس تصوره مفيدًا للعلم بصدقه، وإذا كفى تصور معناه في التصديق به لم يحتج إلى قياس، ومثل، ودليل آخر. فإذا عرف القرآن هذه المعرفة، فالكلام الذي يوافقه أو يخالفه ـ من كلام أهل الكتاب والصابئين والمشركين ـ لابد فيه من الترجمة للفظ والمعنى أيضًا، وحينئذ فالقرآن فيه تفصيل كل شيء كما قال تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ} [يوسف: 111]، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]. ومعلوم أن الأمة مأمورة بتبليغ القرآن ؛ لفظه ومعناه، كما أمر بذلك الرسول، ولا يكون تبليغ رسالة الله إلا كذلك، وأن تبليغه إلى العَجَم قد يحتاج إلى ترجمة لهم، فيترجم لهم بحسب الإمكان، والترجمة قد تحتاج إلى ضرب أمثال لتصوير المعاني، فيكون ذلك من تمام الترجمة. وإذا كان من المعلوم أن أكثر المسلمين، بل أكثر المنتسبين منهم إلى العلم، لا يقومون بترجمة القرآن وتفسيره وبيانه، فلأن يعجز غيرهم عن ترجمة ما عنده وبيانه أولى بذلك؛ لأن عقل المسلمين أكمل، وكتابهم أقوم قيلا، وأحسن حديثًا، ولغتهم أوسع، لاسيما إذا كانت تلك المعاني غير محققة، بل فيها باطل كثير؛ فإن ترجمة المعاني الباطلة وتصويرها صعب؛ لأنه ليس لها نظير من الحق من كل وجه. فإذا سئلنا عن كلام يقولونه: هل هو حق أو باطل، ومن أين يتبين الحق فيه والباطل قلنا ـ من القول: بالحجة والدليل، كما كان المشركون وأهل الكتاب يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسائل، أو يناظرونه، وكما كانت الأمم تجادل رسلها؛ إذ كثير من الناس يدعي موافقة الشريعة للفلسفة. مثال ذلك: إذا ذكروا [العقول العشرة]، و[النفوس التسعة] وقالوا: إن العقل الأول هو الصادر الأول عن الواجب بذاته، وإنه من لوازم ذاته ومعلول له، وكذلك الثاني عن الأول، وإنَّ لكل فلك عقلاً ونفسًا. قيل: قولكم:[عقل، ونفس] لغة لكم، فلابد من ترجمتها، وإن كان اللفظ عربيًا فلابد من ترجمة المعنى. فيقولون: [العقل] هو الروح المجردة عن المادة ـ وهي الجسد وعلائقها ـ سموه عقلاً ويسمونه مفارقًا، ويسمون تلك المفارقات للمواد؛ لأنها مفارقة للأجساد، كما أن روح الإنسان إذا فارقت جسده كانت مفارقة للمادة التي هي الجسد و[النفس]: هي الروح المدبرة للجسم، مثل نفس الإنسان إذا كانت في جسمه، فمتى كانت في الجسم كانت محركة له، فإذا فارقته صارت عقلاً محضًا، أي: يعقل العلوم من غير تحريك بشيء من الأجسام، فهذه العقول والنفوس. وهذا الذي ذكرناه من أحسن الترجمة عن معنى العقل والنفس، وأكثرهم لا يحصلون ذلك. قالوا: وأثبتنا لكل فلك نفسًا؛ لأن الحركة اختيارية، فلا تكون إلا لنفس، ولكل نفس عقلاً؛ لأن العقل كامل لا يحتاج إلى حركة، والمتحرك يطلب الكمال فلابد أن يكون فوقه ما يشبه به، وما يكون علة له، ولهذا كانت حركة أنفسنا للتشبه بما فوقنا من العقول، وكل ذلك تشبه بواجب الوجود بحسب الإمكان. والأول لا يصدر عنه إلا عقل ؛ لأن النفس تقتضي جسمًا، والجسم فيه كثرة، والصادر عنه لا يكون إلا واحدًا. ولهم في الصدور اختلاف كثير ليس هذا موضعه. قيل لهم: أما إثباتكم أن في السماء أرواحًا، فهذا يشبه ما في القرآن وغيره من كتب الله، ولكن ليست هي [الملائكة]، كما يقول الذين يزعمون منكم أنهم آمنوا بما أنزل على الرسول، وما أنزل من قبله، ويقولون: ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق بين الشريعة والفلسفة، فإنهم قالوا: العقول والنفوس عند الفلاسفة هي الملائكة عند الأنبياء، وليس كذلك، لكن تشبهها من بعض الوجوه. فإن اسم الملائكة والملك يتضمن أنهم رسل الله، كما قال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1]، وكما قال: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1]، فالملائكة رسل الله في تنفيذ أمره الكوني الذي يدبر به السموات والأرض، كما قال تعالى: {حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]، وكما قال: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80]، وأمره الديني الذي تنزل به الملائكة، فإنه قال: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]. وملائكة الله لا يحصى عددهم إلا الله، كما قال تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]. وقيل لهم: الذي في الكتاب والسنة، من ذكر الملائكة وكثرتهم، أمر لا يحصر، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا ملك قائم أو قاعد، أو راكع، أو ساجد)، [الأطيط: صوت الأقتاب، وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها، أي: أن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت. وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثم أطيط، وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله تعالى] وقال الله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5]. فمن جعلهم عشرة، أو تسعة عشر، أو زعم أن التسعة عشر الذين على سَقَر هم العقول والنفوس، فهذا من جهله بما جاء عن الله ورسوله، وضلاله في ذلك بين؛ إذ لم تتفق الأسماء في صفة المسمى ولا في قدره، كما تكون الألفاظ المترادفة، وإنما اتفق المسميان في كون كل منهما روحًا متعلقًا بالسموات. وهذا من بعض صفات ملائكة السموات، فالذي أثبتوه هو بعض الصفات لبعض الملائكة، وهو بالنسبة إلى الملائكة وصفاتهم وأقدارهم وأعدادهم في غاية القلة، أقل مما يؤمن به السامرة من الأنبياء بالنسبة إلى الأنبياء؛ إذ هم لا يؤمنون بنبي بعد موسى ويُوشَع. كيف وهم لم يثبتوا للملائكة من الصفة إلا مجرد ما علموه من نفوسهم مجرد العلم للعقول، والحركة الإرادية للنفوس؟ ومن المعلوم أن الملائكة لهم من العلوم، والأحوال، والإرادات، والأعمال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال، ووصفهم في القرآن بالتسبيح والعبادة لله أكثر من أن يذكر هنا، كما ذكر ـ تعالى ـ في خطابه للملائكة، وأمره لهم بالسجود لآدم. وقوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]، وقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26: 29]، وقوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7]، وقوله تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]، وقوله تعالى:{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:124 ،125]، وقوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ} [الأنفال:12]، وقوله تعالى: {ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة:26]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]، وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل:32]، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، وقوله: {حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]، وقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]، وقوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 13: 16]. وقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10: 12]. وقوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، وقوله تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وقوله تعالى:{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات: 1-3]. وقوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} إلى قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:149-166]. وفي الصحيحين عـن جابر بن سَمُْرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول، ويتراصون في الصف)، وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس عن مالك بن صعْصَعَة في حديث المعراج عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ لما ذكر صعوده إلى السماء السابعة ـ قال: (فرفع لي البيت المعمور؛ فسألت جبريل، فقال: هذا البيت المعمور، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم). وقال البخاري: وقال همَّام عن قتادة عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أمَّنَ القارئ فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)، وفي الرواية الأخرى في الصحيحين إذا قال: (آمين، فإن الملائكة في السماء تقول: آمين). وفي الصحيح أيضًا عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه). وفي الصحيح عن عروة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الملائكة تنزل في العَنَان ـ وهو السحاب ـ فتذكر الأمر قضى في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتسمعه، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم). وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله ملائكة سيارة فضلاء، يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر قعدوا معهم، وحَفَّ بعضهم بعضًا بأجنحتهم، حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، فيسألهم الله ـ وهو أعلم ـ من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك، ويهللونك ويحمدونك، ويسألونك. قال: وما يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك. قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا أي رب، قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك. قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك. قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا :يا رب لا. قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك. قال: فيقول: قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا، وأجَرْتُهم مما استجاروا، قال: يقولون: رب، فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم. قال: فيقول: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). وفي الصحيحين عن ُعرْوَة ،عن عائشة حدثته؛ أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد؟ قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العَقَبَة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقَرْن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم على، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأَخْشَبَيْن[الأخشبان: هما الجبلان المطيفان بمكة، وهما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان. والأخشب كل جبل خشن غليظ الحجارة] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا). وأمثال هذه الأحاديث الصحاح مما فيها ذكر الملائكة الذين في السموات وملائكة الهواء والجبال، وغير ذلك كثيرة. وكذلك الملائكة المتصرفون في أمور بني آدم، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه ـ حديث الصادق المصدوق ـ إذ يقول: (ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال: اكتب رزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح) وفي الصحيح حديث البراء ابن عازب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان:(اهجهم ـ أو هاجهم ـ وجبريل معك)، وفي الصحيح أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أجب عني، اللّهم أيده بروح القُدُس)، وفي الصحيح عن أنس قال: (كأني أنظر إلى غبار ساطع في سكة بني غنم موكب جبريل)، وفي الصحيحين عن عائشة: أن الحارث بن هشام قال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ قال: (أحيانًا يأتيني مثل صَلْصَلَة الجرس، وهو أشده علي، فَيُفْصِم عني وقد وَعَيْتُ ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً، فيكلمني، فأعي ما يقول) [وقوله: فيُفْصِم: أي فيقْلِع]. وإتيان جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم تارة في صورة أعرابي، وتارة في صورة دحْيَة الكلبي، ومخاطبته وإقراؤه إياه كثيرًا، أعظم من أن يذكر هنا. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر والعصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم ـ وهو أعلم بهم ـ كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون). وفي الصحيحين عن عائشة قالت: حشوت للنبي صلى الله عليه وسلم وسادة فيها تماثيل، كأنها نمرقة فجاء فقام، وجعل يتغير وجهه، فقلت:ما لنا يا رسول الله؟ قال: (ما بال هذه الوسادة؟) قالت: وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها، قال: (أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، إن من صنع الصور يعذب يوم القيامة يقال: أحيوا ما خلقتم)، وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: سمعت أبا طلحة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لاتدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولاصورة تماثيل). وكذلك في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: (وعد النبي صلى الله عليه وسلم جبريل، فقال: إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة)، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مُصَلاَّه الذي صلى فيه: اللّهم اغفر له، اللّهم ارحمه، ما لم يحدث). وأمثال هذه النصوص، التي يذكر فيها من أصناف الملائكة وأوصافهم وأفعالهم، ما يمنع أن تكون على ما يذكرونه من [العقول، والنفوس] أو أن يكون جبريل هو [العقل الفعال] وتكون ملائكة الآدميين هي القوى الصالحة، والشياطين هي القوى الفاسدة، كما يزعم هؤلاء. وأيضًا، فزعمهم أن العقول والنفوس ـ التي جعلوها الملائكة، وزعموا أنها معلولة عن الله صادرة عن ذاته صدور المعلول عن علته ـ هو قول بتولدها عن الله، وأن الله ولد الملائكة، وهذا مما رده الله ونزه نفسه عنه، وكذب قائله، وبين كذبه بقوله :{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3، 4] وقال تعالى: {أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات:151 - 157]، وبقوله: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100]، وقوله تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:26- 28]، وقال تعالى :{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا} [النساء: 172]، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:88 -95] . فأخبر أنهم معبدون، أي: مذللون مصرفون، مدينون مقهورون، ليسوا كالمعلول المتولد تولدًا لازمًا لا يتصور أن يتغير عن ذلك. وأخبر أنهم عباد لله، لا يشبهون به كما يشبه المعلول بالعلة، والولد بالوالد، كما يزعمه هؤلاء الصابئون، وقال تعالى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [البقرة:116، 117]، فأخبر أنه يقتضي كل شيء بقوله: [كن] لا بتولد المعلول عنه. وكذلك قال سبحانه: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 100، 101] فأخبر أن التولد لا يكون إلا عن أصلين،كما تكون النتيجة عن مقدمتين، وكذلك سائر المعلولات المعلومة لا يحدث المعلول إلا باقتران ما تتم به العلة، فأما الشيء الواحد وحده فلا يكون علة ولا والدًا قط، لا يكون شيء في هذا العالم إلا عن أصلين، ولو أنهما الفاعل والقابل، كالنار والحطب، والشمس والأرض، فأما الواحد وحده فلا يصدر عنه شيء ولا يتولد. فبين القرآن أنهم أخطؤوا طريق القياس في العلة والتولد، حيث جعلوا العالم يصدر عنه بالتعليل والتولد، وكذلك قال: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] خلاف قولهم: إن الصادر عنه واحد. وهذا وفاء بما ذكره الله ـ تعالى ـ من قوله وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:33] إذ قد تكفل بذلك في حق كل من خرج عن اتباع الرسول، فقال تعالى :{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، [فذكر] الوحدانية والرسالة إلى قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 ـ 29]، فكل من خرج عن اتباع الرسول فهو ظالم بحسب ذلك. والمبتدع ظالم بقدر ما خالف من سنته: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:30-33]. وهؤلاء الصابئة قد أتوا بمثل، وهو قولهم: الواحد لا يصدر عنه ويتولد عنه إلا واحد، والرب واحد فلا يصدر عنه إلا واحد يتولد عنه. فأتى الله بالحق وأحسن تفسيرًا، وبين أن الواحد لا يصدر عنه شيء ولا يتولد عنه شيء أصلا، وأنه لم يتولد عنه شيء، ولم يصدر عنه شيء، ولكن خلق كل شيء خلقًا، وأنه خلق من كل شيء زوجين اثنين. ولهذا قال مجاهد ـ وذكره البخاري في صحيحه ـ في الشفع والوتر: (إن الشفع هو الخلق، فكل مخلوق له نظير، والوتر هو الله الذي لا شبيه له)، فقال:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام:101]. وذلك أن الآثار الصادرة عن العلل والمتولدات في الموجودات لابد فيها من شيئين أحدهما: يكون كالأب، والآخر: يكون كالأم القابلة. وقد يسمون ذلك الفاعل والقابل كالشمس مع الأرض، والنار مع الحطب، فأما صدور شيء واحد عن شيء واحد،فهذا لا وجود له في الوجود أصلا. وأما تشبيههم ذلك بالشعاع مع الشمس،وبالصوت ـ كالطنين ـ مع الحركة والنقر، فهو أيضًا حجة لله ورسوله والمؤمنين عليهم. وذلك أن الشعاع إن أريد به نفس ما يقوم بالشمس، فذلك صفة من صفاتها، وصفات الخالق ليست مخلوقة، ولا هي من العالم الذي فيه الكلام. وإن أريد بالشعاع ما ينعكس على الأرض، فذلك لابد فيه من شيئين، وهما الشمس التي تجري مجرى الأب الفاعل، والأرض التي تجري مجرى الأم القابلة، وهي الصاحبة للشمس. وكذلك الصوت لا يتولد إلا عن جسمين يقرع أحدهما الآخر، أو يقلع عنه، فيتولد الصوت الموجود في أجسام العالم عن أصلين يقرع أحدهما الآخر، أو يقلع عنه. فمهما احتجوا به من القياس، فالذي جاء الله به هو الحق وأحسن تفسيرًا، وأحسن بيانًا وإيضاحًا للحق وكشفًا له. وأيضًا، فجعلها علة تامة لما تحتها، ومؤكدة له، وموجبة له حتى يجعلوها مبادئنا، ويجعلوها لنا كالآباء والأمهات، وربما جعلوا العقل هو الأب، والنفس هي الأم، وربما قال بعضهم :]الوالدان[: العقل والطبيعة، كما قال صاحب الفصوص في قول نوح {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28]، أي: من كنت نتيجة عنهما،وهما العقل والطبيعة. وحتى يسمونها الأرباب والآلهة الصغرى، ويعبدونها. وهو كفر مخالف لما جاءت به الرسل. وبهذا وصف بعض السلف الصابئة بأنهم يعبدون الملائكة، وكذلك في الكتب المعربة عن قدمائهم، أنهم كانوا يسمونها الآلهة والأرباب الصغرى، كما كانوا يعبدون الكواكب أيضًا. والقرآن ينفي أن تكون أربابًا، أو أن تكون آلهة، ويكون لها غير ما للرسول الذي لا يفعل إلا بعد أمُرِ مُرْسِلِه، و لا يشفع إلا بعد أن يؤذن له في الشفاعة، وقد رد الله ذلك على من زعمه من العرب والروم وغيرهم من الأمم، فقال تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}؟ [آل عمران:80] وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ{ [الأنبياء:62، 72]، وقال تعالى :{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ :22، 32]. وقد تقدم بعض الأحاديث في صعق الملائكة إذا قضى الله بالأمر الكوني أو بالوحي الديني. وقال تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} [النجم:62] ، وقال تعالى :{بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} الآية[الأنبياء:26]، وقال تعالى :{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، وقال تعالى :{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56، 57]، نزلت الآية في الذين يدعون الملائكة والنبيين. واستقصاء القول في ذلك ليس هذا موضعه. فإن الله ـ سبحانه ـ بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم. فالكلم التي في القرآن جامعة محيطة، كلية عامة لما كان متفرقًا منتشرًا في كلام غيره، ثم إنه يسمى كل شيء بما يدل على صفته المناسبة للحكم المذكور المبين، وما يبين وجه دلالته. فإن تنزيهه نفسه عن الولد والولادة واتخاذ الولد، أعم وأقوم من نفيه بلفظ العلة؛ فإن العلة أصلها التغيير، كالمرض الذي يحيل البدن عن صحته، والعليل ضد الصحيح. وقد قيل: إنه لا يقال:[معلول] إلا في الشرب، يقال: شرب الماء علا بعد نَهَل، وعللته: إذا سقيته مرة ثانية. وأما استعمال اسم [العلة] في الموجب للشيء أو المقتضى له، فهو من عرف أهل الكلام، وهي ـ وإن كان بينهما وبين العلة اللغوية مناسبة من جهة التغير ـ فالمناسبة في لفظ [التولد] أظهر؛ ولهذا كان في الخطاب أشهر. يقول الناس: هذا الأمر يتولد عنه كذا، وهذا يولد كذا، وقد تولد عن ذلك الأمر كيت وكيت، لكل سبب اقتضى مسببًا من الأقوال والأعمال، حتى أهل الطبائع يقولون: [الأركان والمولدات]، يريدون ما يتولد عن الأصول الأربعة ـ التراب، والماء، والهواء، والنار ـ من معدن، ونبات، وحيوان. فنفيه ـ سبحانه ـ عن نفسه أن يلد شيئًا اقتضى ألا يتولد عنه شيء، ونفيه أن يتخذ ولدًا يقتضى أنه لم يفعل ذلك بشيء من خلقه على سبيل التكريم، وأن العباد لا يصلح أن يتخذ شيئًا منهم بمنزلة الولد. وهذا يبطل دعوى من يدعي مثل ذلك في المسيح وغيره، ومن يقول: {نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ} [المائدة:18]، ومن يقول: الفلسفة هي التشبه بالإله، فإن الولد يكون من جنس والده ويكون نظيرًا له، وإن كان فرعًا له، ولهذا كان هؤلاء القائلون بهذه المعاني من أعظم الخلق قولاً بالتشبيه والتمثيل، وجعل الأنداد له والعدل والتسوية؛ ولهذا كانت الفلاسفة الذين يقولون بصدور العقول والنفوس عنه على وجه التولد والتعليل يجعلونها له أندادًا، ويتخذونها آلهة وأربابًا، بل قد لا يعبدون إلا إياها، ولا يدعون سواها، ويجعلونها هي المبدعة لما سواها مما تحتها. فالحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك، و{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:1، 2] [بهامش الأصل هنا متروك محل خمسة أسطر. قال في المسودة: يتلوه الوريقة، ولم نجدها] فإن هؤلاء جعلوا لله شركاء الجن وخلقهم، وخرقوا له بنين وبنات بغير علم، و[الجن] قد قيل: إنه يعم الملائكة، كما قيل في قوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات:158]، وإن كان قد قيل في سبب ذلك: زعم بعض مشركي العرب أن الله صاهر إلى الجن فولدت الملائكة، فقد كانوا يعبدون الملائكة أيضًا، كما عبدتها الصابئة الفلاسفة، كما قال تعالى :{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} [سبأ:40 ،41] ، يعني: أن الملائكة لم تأمرهم بذلك؛ وإنما أمرتهم بذلك الجن؛ ليكونوا عابدين للشياطين التي تتمثل لهم ، كما يكون للأصنام شياطين. وكما تنزل الشياطين على بعض من يعبد الكواكب ويرصدها، حتى تنزل عليه صورة فتخاطبه، وهو شيطان من الشياطين. ولهذا قال تعالى :{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:60-62]، وقال :{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، فهم وإن لم يقصدوا عبادة الشيطان وموالاته، ولكنهم في الحقيقة يعبدونه ويوالونه. فقد تبين أن هؤلاء الفلاسفة الصابئة المبتدعة مؤمنون بقليل مما جاءت به الرسل في أمر الملائكة، في صفتهم وأقدارهم. وذلك، أن هؤلاء القوم إنما سلكوا سبيل الاستدلال بالحركات الفلكية والقياس على نفوسهم، مع ما جحدوه وجهلوه من خلق الله وإبداعه. وسبب ذلك: ما ذكره طائفة ممن جمع أخبارهم: أن أساطينهم الأوائل، كفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون، كانوا يهاجرون إلى أرض الأنبياء بالشام، ويتلقون عن لقمان الحكيم، ومن بعده من أصحاب داود وسليمان، وأن أرسطو لم يسافر إلى أرض الأنبياء، ولم يكن عنده من العلم بأثارة الأنبياء ما عند سلفه. وكان عنده قدر يسير من الصابئية الصحيحة، فابتدع لهم هذه التعاليم القياسية، وصارت قانونًا مشى عليه أتباعه، واتفق أنه قد يتكلم في طبائع الأجسام، أو في صورة المنطق أحيانًا بكلام صحيح. وأما الأولون، فلم يوجد لهم مذهب تام مبتدع بمنزلة مبتدعة المتكلمين في المسلمين، مثل: أبي الهذيل، وهشام بن الحكم، ونحوهما، ممن وضع مذهبًا في [أبواب أصول الدين] فاتبعه على ذلك طائفة؛ إذ كان أئمة المسلمين ـ مثل مالك، وحماد بن زيد، والثوري، ونحوهم ـ إنما تكلموا بما جاءت به الرسالة وفيه الهدى والشفاء، فمن لم يكن له علم بطريق المسلمين، يعتاض عنه بما عند هؤلاء، وهذا سبب ظهور البدع في كل أمة، وهو خفاء سنن المرسلين فيهم، وبذلك يقع الهلاك. ولهذا كانوا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، قال مالك ـ رحمه الله: السنة مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك. وهذا حق. فإن سفينة نوح إنما ركبها من صدق المرسلين واتبعهم، وأن من لم يركبها فقد كذب المرسلين. واتباع السنة هو اتباع الرسالة التي جاءت من عند الله، فتابعها بمنزلة من ركب مع نوح السفينة باطنًا وظاهرًا. والمتخلف عن اتباع الرسالة بمنزلة المتخلف عن اتباع نوح ـ عليه السلام ـ وركوب السفينة معه. وهكذا إذا تدبر المؤمن العليم سائر مقالات الفلاسفة وغيرهم من الأمم التي فيها ضلال وكفر، وجد القرآن والسنة كاشفين لأحوالهم، مبينين لحقهم، مميزين بين حق ذلك وباطله. والصحابة كانوا أعلم الخلق بذلك، كما كانوا أقوم الخلق بجهاد الكفار والمنافقين، كما قال فيهم عبد الله بن مسعود: من كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد ،كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم فأخبر عنهم بكمال بر القلوب، مع كمال عمق العلم، وهذا قليل في المتأخرين، كما يقال: من العجائب فقيه صوفي، وعالم زاهد ونحو ذلك. فإن أهل برّ القلوب وحسن الإرادة وصلاح المقاصد يحمدون على سلامة قلوبهم من الإرادات المذمومة، ويقترن بهم كثيرًا عدم المعرفة، وإدراك حقائق أحوال الخلق التي توجب الذم للشر والنهي عنه، والجهاد في سبيل الله، وأهل التعمق في العلوم قد يدركون من معرفة الشرور والشبهات ما يوقعهم في أنواع الغى والضلالات، وأصحاب محمد كانوا أبر الخلق قلوبًا وأعمقهم علماً. ثم إن أكثر المتعمقين في العلم من المتأخرين يقترن بتعمقهم التكلف المذموم من المتكلمين والمتعبدين، وهو القول والعمل بلا علم، وطلب ما لا يدرك. وأصحاب محمد كانوا ـ مع أنهم أكمل الناس علمًا نافعًا وعملاً صالحًا ـ أقل الناس تكلفًا، يصدر عن أحدهم الكلمة والكلمتان من الحكمة أو من المعارف، ما يهدي الله بها أمة، وهذا من منن الله على هذه الأمة. وتجد غيرهم يحشون الأوراق من التكلفات والشطحات، ما هو من أعظم الفضول المبتدعة، والآراء المخترعة، لم يكن لهم في ذلك سلف إلا رعونات النفوس المتلقاة ممن ساء قصده في الدين. ويروى أن الله ـ سبحانه ـ قال للمسيح: إني سأخلق أمة أفضلها على كل أمة، وليس لها علم ولا حلم، فقال المسيح: أي رب، كيف تفضلهم على جميع الأمم، وليس لهم علم ولا حلم؟ قال: أهبهم من علمي وحلمي، وهذا من خواص متابعة الرسول. فأيهم كان له أتبع كان في ذلك أكمل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:28 ،29[. وكذلك في الصحيحين من حديث أبي موسى وعبد الله بن عمر: (مثلنا ومثل الأمم قبلنا، كالذي استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود. ثم قال: من يعمل لي إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى. ثم قال: من يعمل لي إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ فعملت المسلمون، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا نحن أكثر عملاً وأقل أجرًا. قال: فهل ظلمتكم من حقكم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء). فدل الكتاب والسنة على أن الله يؤتي أتباع هذا الرسول من فضله ما لم يؤته لأهل الكتابين قبلهم، فكيف بمن هو دونهم من الصابئة؟ دع مبتدعة الصابئة من المتفلسفة ونحوهم. ومن المعلوم أن أهل الحديث والسنة أخص بالرسول وأتباعه، فلهم من فضل الله وتخصيصه إياهم بالعلم والحلم وتضعيف الأجر ما ليس لغيرهم، كما قال بعض السلف أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل. فهذا الكلام تنبيه على ما يظنه أهل الجهالة والضلالة من نقص الصحابة في العلم والبيان، أو اليد والسِّنَان[السِّنان: الرُّمْح]، وبسط هذا لا يتحمله هذا المقام. والمقصود التنبيه على أن كل من زعم بلسان حاله أو مقاله: أن طائفة غير أهل الحديث أدركوا من حقائق الأمور الباطنة الغيبية في أمر الخلق والبعث والمبدأ والمعاد، وأمر الإيمان بالله واليوم الآخر، وتعرف واجب الوجود والنفس الناطقة والعلوم، والأخلاق التي تزكو بها النفوس وتصلح وتكمل دون أهل الحديث، فهو ـ إن كان من المؤمنين بالرسل ـ فهو جاهل، فيه شعبة قوية من شعب النفاق، وإلا فهو منافق خالص من الذين :{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] وقد يكون من :{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} [غافر:35]، ومن {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى:16]. وقد يبين ذلك بالقياس العقلي الصحيح الذي لا ريب فيه ـ وإن كان ذلك ظاهرًا بالفطرة لكل سليم الفطرة ـ فإنه متى كان الرسول أكمل الخلق وأعلمهم بالحقائق وأقومهم قولاً وحالاً، لزم أن يكون أعلم الناس به أعلم الخلق بذلك، وأن يكون أعظمهم موافقة له واقتداء به أفضل الخلق. ولايقال: هذه الفطرة يغيرها ما يوجد في المنتسبين إلى السنة والحديث من تفريط وعدوان، لأنه يقال: إن ذلك في غيرهم أكثر والواجب مقابلة الجملة بالجملة في المحمود والمذموم، هذه هي المقابلة العادلة. وإنما غيَّر الفطرة قلة المعرفة بالحديث والسنة واتباع ذلك،مع ما يوجد في المخالفين لها من نوع تحقيق لبعض العلم، وإحسان لبعض العمل، فيكون ذلك شبهة في قبول غيره، وترجيح صاحبه، ولا غرض لنا في ذكر الأشخاص، وقد ذكر أبو محمد ابن قتيبة في أول كتاب [مختلف الحديث] وغيره من العلماء في هذا الباب ما لا يحصى من الأمور المبينة لما ذكرناه. وإنما المقصود ذكر نفس الطريقة العلمية والعملية، التي تعرف بحقائق الأمور الخبرية النظرية، و توصل إلى حقائق الأمور الإرادية العملية، فمتى كان غير الرسول قادرًا على علم بذلك أو بيان له أو محبة لإفادة ذلك، فالرسول أعلم بذلك وأحرص على الهدى، وأقدر على بيانه منه، وكذلك أصحابه من بعده وأتباعهم. وهذه صفات الكمال والعلم والإرادة والإحسان والقدرة عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستخارة: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب). فعلمنا صلى الله عليه وسلم أن نستخير الله بعلمه، فيعلّمنا من علمه ما نعلم به الخير، ونستقدره بقدرته، فيجعلنا قادرين؛ إذ الاستفعال هو طلب الفعل، كما قال في الحديث الصحيح: يقول الله تعالى: (يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم ضالُّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم). فاستهداء الله طلب أن يهدينا، واستطعامه طلب أن يطعمنا، هذا قوت القلوب، وهذا قوت الأجسام، وكذلك استخارته بعلمه واستقداره بقدرته. ثم قال: (وأسألك من فضلك العظيم)، فهذا السؤال من جوده ومَنِّه، وعطائه وإحسانه الذي يكون بمشيئته ورحمته وحنانه؛ ولهذا قال: (فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم) ولم يقل: إني لا أرحم نفسي؛ لأنه في مقام الاستخارة يريد الخير لنفسه ويطلب ذلك، لكنه لا يعلمه ولا يقدر عليه، إن لم يعلّمه الله إياه ويقدره عليه. فإذا كان الرسول أعلم الخلق بالحقائق الخبرية والطلبية، وأحب الخلق للتعليم والهداية والإفادة، وأقدر الخلق على البيان والعبارة، امتنع أن يكون من هو دونه أفاد خواصه معرفة الحقائق أعظم مما أفادها الرسول لخواصه،فامتنع أن يكون عند أحد من الطوائف من معرفة الحقائق ما ليس عند علماء الحديث&rl
|
|