المصدر : مجموع فتاوى ابن تيمية
موضوع الفتوى : العقيدة
الكتاب : كتاب توحيد الألوهية

السؤال :

سئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر‏)‏ فهل هذا موافق لما يقوله الاتحادية‏؟‏ بينوا لنا ذلك‏؟‏



الجواب :

الحمد لله‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر‏)‏‏:‏ مروي بألفاظ أخر، كقوله‏:‏ ‏(‏يقول الله‏:‏ يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار‏)‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر، يقلب الليل والنهار‏)‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏يقول ابن آدم‏:‏ يا خيبة الدهر، وأنا الدهر‏)‏‏.‏
فقوله في الحديث‏:‏ ‏(‏بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار‏)‏ يبين أنه ليس المراد به أنه الزمان، فإنه قد أخبر أنه يقلب الليل والنهار، والزمان هو الليل والنهار، فدل نفس الحديث على أنه هو يقلب الزمان ويصرفه‏.‏ كما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأولى الْأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏43، 44‏]‏‏.‏ وإزجاء السحاب‏:‏سوقه‏.‏ والودق‏:‏المطر‏.‏
 فقد بين ـ سبحانه ـ خلقه للمطر، وإنزاله على الأرض، فإنه سبب الحياة في الأرض، فإنه ـ سبحانه ـ جعل من الماء كل شيء حي، ثم قال‏:‏ ‏(‏يقلب الله الليل والنهار‏)‏ إذ تقليبه الليل والنهار‏:‏ تحويل أحوال العالم بإنزال المطر، الذي هو سبب خلق النبات والحيوان والمعدن، وذلك سبب تحويل الناس من حال إلى حال، المتضمن رفع قوم وخفض أخرىن‏.‏ وقد أخبر ـ سبحانه ـ بخلقه الزمان في غير موضع، كقوله‏:‏‏{‏وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏1‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏33‏]‏، وَقوله‏:‏‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏62‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأولى الألْبَابِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏190‏]‏، وغير ذلك من النصوص التي تبين أنه خالق الزمان‏.‏ ولا يتوهم عاقل‏:‏ أن الله هو الزمان، فإن الزمان مقدار الحركة، والحركة مقدارها من باب الأعراض والصفات القائمة بغيرها، كالحركة والسكون والسواد والبياض‏.‏
ولا يقول عاقل‏:‏ إن خالق العالم هو من باب الأعراض والصفات، المفتقرة إلى الجواهر والأعيان، فإن الأعراض لا تقوم بنفسها، بل هي مفتقرة إلى محل تقوم به، والمفتقر إلى ما يغايره لا يوجد بنفسه، بل بذلك الغير فهو محتاج إلى ما به في نفسه من غيره، فكيف يكون هو الخالق‏؟‏
ثم أن يستغني بنفسه، وأن يحتاج إليه ما سواه، وهذه صفة الخالق سبحانه، فكيف يتوهم أنه من النوع الأول‏؟‏
وأهل الإلحاد ـ القائلون بالوحدة أو الحلول أو الاتحاد ـ لا يقولون‏:‏ إنه هو الزمان، ولا أنه من جنس الأعراض والصفات، بل يقولون‏:‏ هو مجموع العالم، أو حال في مجموع العالم‏.‏
فليس في الحديث شبهة لهم، لو لم يكن قد بين فيه أنه ـ سبحانه ـ مقلب الليل والنهار ـ فكيف وفي نفس الحديث أنه بيده الأمر يقلب الليل والنهار‏.‏
إذا تبين هذا، فللناس في الحديث قولان معروفان لأصحاب أحمد وغيرهم‏.‏
أحدهما‏:‏ وهو قول أبي عبيد وأكثر العلماء‏:‏ أن هذا الحديث خرج الكلام فيه لرد ما يقوله أهل الجاهلية، ومن أشبههم، فإنهم إذا أصابتهم مصيبة أو منعوا أغراضهم أخذوا يسبون الدهر والزمان، يقول أحدهم‏:‏ قبح الله الدهر الذي شتت شملنا، ولعن الله الزمان الذي جرى فيه كذا وكذا‏.‏
وكثيرًا ما جرى من كلام الشعراء وأمثالهم نحو هذا، كقولهم‏:‏ يا دهر، فعلت كذا‏.‏ وهم يقصدون سب من فعل تلك الأمور، ويضيفونها إلى الدهر، فيقع السب على الله تعالى، لأنه هو الذي فعل تلك الأمور وأحدثها، والدهر مخلوق له، هو الذي يقلبه ويصرفه‏.‏
والتقدير‏:‏أن ابن آدم يسب من فعل هذه الأمور وأنا فعلتها، فإذا سب الدهر فمقصوده سب الفاعل، وإن أضاف الفعل إلى الدهر، فالدهر لا فعل له، وإنما الفاعل هو الله وحده‏.‏
وهذا كرجل قضي عليه قاض بحق أو أفتاه مُفْتٍ بحق، فجعل يقول‏:‏ لعن الله من قضى بهذا أو أفتى بهذا، ويكون ذلك من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وفتياه فيقع السب عليه، وإن كان الساب ـ لجهله ـ أضاف الأمر إلى المبلغ في الحقيقة، والمبلغ له فعل من التبليغ، لخلاف الزمان فإن الله يقلبه ويصرفه‏.‏
والقول الثاني‏:‏ قول نُعَيْم بن حماد، وطائفة معه من أهل الحديث والصوفية‏:‏ أن الدهر من أسماء الله تعالى، ومعناه‏:‏ القديم الأزلي‏.‏
ورووا في بعض الأدعية‏:‏ يا دهر يا ديهور، يا ديهار، وهذا المعنى صحيح؛ لأن الله ـ سبحانه ـ هو الأول ليس قبله شيء، وهو الآخر ليس بعده شيء، فهذا المعنى صحيح إنما النزاع في كونه يسمى دهرًا بكل حال‏.‏
فقد أجمع المسلمون ـ وهو مما علم بالعقل الصريح ـ أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ليس هو الدهر الذي هو الزمان، أو ما يجري مجرى الزمان، فإن الناس متفقون على أن الزمان الذي هو الليل والنهار‏.‏
وكذلك ما يجري مجرى ذلك في الجنة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏26‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏على مقدار البكرة والعشي في الدنيا، وفي الآخرة يوم الجمعة يوم المزيد، والجنة ليس فيها شمس ولا قمر، ولكن تعرف الأوقات بأنوار أخر، قد روى أنها تظهر من تحت العرش، فالزمان هنالك مقدار الحركة التي بها تظهر تلك الأنوار‏.‏
 وهل وراء ذلك جوهر قائم بنفسه سيال هو الدهر‏؟‏ هذا مما تنازع فيه الناس، فأثبته طائفة من المتفلسفة من أصحاب أفلاطون، كما أثبتوا الكليات المجردة في الخارج، التي تسمى المثل الأفلاطونية والمثل المطلقة، وأثبتوا الهيولي التي هي مادة مجردة عن الصور، وأثبتوا الخلاء جوهرًا قائما بنفسه‏.‏
وأما جماهير العقلاء من الفلاسفة وغيرهم، فيعلمون أن هذا كله لا حقيقة له في الخارج، وإنما هي أمور يقدرها الذهن ويفرضها، فيظن الغالطون أن هذا الثابت في الأذهان هو بعينه ثابت في الخارج عن الأذهان، كما ظنوا مثل ذلك في الوجود المطلق، مع علمهم أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الذهن، وليس في الخارج إلا شيء معين وهي الأعيان، وما يقوم بها من الصفات، فلا مكان إلا الجسم أو ما يقوم به، ولا زمان إلا مقدار الحركة، ولا مادة مجردة عن الصور، بل ولا مادة مقترنة بها غير الجسم الذي يقوم به الأعراض، ولا صورة إلا ما هو عرض قائم بالجسم، أو ما هو جسم يقوم به العرض، وهذا وأمثاله مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
وإنما المقصود التنبيه على ما يتعلق بذلك على وجه الاختصار، والله أعلم‏.‏

 







أتى هذا المقال من شبكة الفرقان السلفية
http://www.elforqane.net

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.elforqane.net/fatawa-999.html