السؤال :
فصــل: في أن كل من استحكم في بدعته يرى أن قياسه يطرد
الجواب :
والحاصل أن كل من استحكم في بدعته يرى أن قياسه يطرد؛ لما فيه من التسوية بين المتماثلين عنده ـ وإن استلزم ذلك كثرة مخالفة النصوص ـ وهذا موجود في المسائل العلمية الخبرية، والمسائل العملية الإرادية تجد المتكلم قد يطرد قياسه طردًا مستمرًا فيكون في ظاهر الأمر أجود ممن نقضها، وتجد المستن الذي شاركه في ذلك القياس قد يقول ما يناقض ذلك القياس في مواضع، مع استشعار التناقض تارة، وبدون استشعاره تارة، وهو الأغلب. وربما يخيل بفروق ضعيفة فهو في نقض علته والتفريق بين المتماثلين فيها، يظهر أنه دون الأول في العلم والخبرة وطرد القول، وليس كذلك، بل هو خير من الأول. فإن ذلك القياس الذي اشتركا فيه كان فاسدًا في أصله؛ لمخالفة النص والقياس الصحيح، فالذي طرده أكثر فسادًا وتناقضًا من هذا الذي نقضه. وهذا شأن كل من وافق غيره على قياس ليس هو في نفس الأمر بحق، وكان أحدهما من النصوص في مواضع ما يخالف ذلك القياس، وهذا يسميه الفقهاء في مواضع كثيرة: الاستحسان. فتجد القائلين بالاستحسان، الذي تركوا فيه القياس لنص خيرًا من الذين طردوا القياس وتركوا النص.
ولهذا يروى عن أبي حنيفة، أنه قال: لا تأخذوا بمقاييس زُفَر، فإنكم إن أخذتم بمقاييسه حرمتم الحلال وحللتم الحرام، فإن زفر كان كثير الطرد، لما يظنه من القياس مع قلة علمه بالنصوص.
وكان أبو يوسف نظره بالعكس، كان أعلم بالحديث منه؛ ولهذا توجد المسائل التي يخالف فيها زفر أصحابه عامتها قياسية، ولا يكون إلا قياسًا ضعيفًا عند التأمل، وتوجد المسائل التي يخالف فيها أبو يوسف أبا حنيفة واتبعه محمد عليها، عامتها اتبع فيها النصوص والأقيسة الصحيحة؛ لأن أبا يوسف رحل بعد موت أبي حنيفة إلى الحجاز، واستفاد من علم السنن التي كانت عندهم ما لم تكن مشهورة بالكوفة، وكان يقول: لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت؛ لعلمه بأن صاحبه ما كان يقصد إلا اتباع الشريعة، لكن قد يكون عند غيره من علم السنن ما لم يبلغه.
وهذا ـ أيضًا ـ حال كثير من الفقهاء ـ بعضهم مع بعض ـ فيما وافقوا عليه من قياس لم تثبت صحته بالأدلة المعتمدة، فإن الموافقة فيه توجب طرده، ثم أهل النصوص قد ينقضونه، والذين لا يعلمون النصوص يطردونه.
وكذلك هذه حال أكثر متكلمة أهل الإثبات مع متكلمة النفاة في مسائل الصفات والقدر وغير ذلك، قد يوافقونهم على قياس فيه نفي، ثم يطرده أولئك فينفون به ما أثبتته النصوص، والمثبتة لا تفعل ذلك، بل لابد من القول بموجب النص، فربما قالوا ببعض معناها، وربما فرقوا بفرق ضعيف.
وأصل ذلك: موافقة أولئك على القياس الضعيف، وذلك في مثل مسائل الجسم والجوهر وغير ذلك.
وهكذا تجد هذا حال من أعان ظالمًا في الأفعال، فإن الأفعال لا تقع إلا عن إرادة، فالظالم يطرد إرادته فيصيب من أعانه، أو يصيب ظلمًا لا يختاره هذا، فيريد المعين أن ينقض الطرد، ويخص علته؛ ولهذا يقال: من أعان ظالمًا بُلى به، وهذا عام في جميع الظلمة من أهل الأقوال والأعمال، وأهل البدع والفجور. وكل من خالف الكتاب والسنة: من خبر أو أمر أو عمل، فهو ظالم.
فإن الله أرسل رسله؛ ليقوم الناس بالقسط، ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم، وقد بين الله ـ سبحانه ـ له من القسط ما لم يبينه لغيره، وأقدره على ما لم يقدر عليه غيره، فصار يفعل ويأمر بما لا يأمر به غيره ويفعله.
وذلك أن بني آدم في كثير من المواضع قد لا يعلمون حقيقة القسط ولا يقدرون على فعله، بل ما كان إليه أقرب وبه أشبه كان أمثل، وهي الطريقة المثلى. وقد بسطنا هذا في مواضع، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن: 9]، وقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) .
والمقصود أن ما عند عوام المؤمنين وعلمائهم ـ أهل السنة والجماعة ـ من المعرفة واليقين والطمأنينة، والجزم الحق والقول الثابت، والقطع بما هم عليه أمر لا ينازع فيه إلا من سلبه الله العقل والدين.
وهب أن المخالف لا يسلم ذلك، فلا ريب أنهم يخبرون عن أنفسهم بذلك، ويقولون: إنهم يجدون ذلك، وهو وطائفته يخبرون بضد ذلك، ولا يجدون عندهم إلا الريب. فأي الطائفتين أحق بأن يكون كلامها موصوفًا بالحشو؟ أو يكون أولى بالجهل والضلال، والإفك والمحال؟ وكلام المشائخ والأئمة من أهل السنة والفقه والمعرفة في هذا الباب أعظم من أن نطيل به الخطاب.
الوجه الثاني: أنك تجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالاً من قول إلى قول، وجزمًا بالقول في موضع، وجزمًا بنقيضه، وتكفير قائله في موضع آخر، وهذا دليل عدم اليقين، فإن الإيمان كما قال فيه[قيصر] لما سأل أبا سفيان عمن أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم: هل يرجع أحد منهم عن دينه سُخْطَة له، بعد أن يدخل فيه ؟ قال: لا. قال: وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب، لا يسخطه أحد، ولهذا قال بعض السلف ـ عمر بن عبد العزيز أو غيره ـ: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل.
وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم، ولا صالح عامتهم، رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبرًا على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين، كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك ـ رحمه الله ـ يقول: لا تغبطوا أحدًا لم يصبه في هذا الأمر بلاء. يقول: إن الله لابد أن يبتلي المؤمن، فإن صبر رفع درجته، كما قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1ـ3]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].
ومن صبر من أهل الأهواء على قوله، فذاك لما فيه من الحق، إذ لابد في كل بدعة عليها طائفة كبيرة من الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوافق عليه أهل السنة والحديث، ما يوجب قبولها؛ إذ الباطل المحض لا يقبل بحال.
وبالجملة، فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة، بل المتفلسف أعظم اضطرابًا وحيرة في أمره من المتكلم؛ لأن عند المتكلم من الحق الذي تلقاه عن الأنبياء ما ليس عند المتفلسف؛ ولهذا تجد مثل: أبي الحسين البصري وأمثاله أثبت من مثل: ابن سينا وأمثاله.
وأيضا، تجد أهل الفلسفة والكلام أعظم الناس افتراقًا واختلافًا، مع دعوى كل منهم أن الذي يقوله حق مقطوع به قام عليه البرهان. وأهل السنة والحديث أعظم الناس اتفاقا وائتلافًا، وكل من كان من الطوائف إليهم أقرب كان إلى الاتفاق والائتلاف أقرب، فالمعتزلة أكثر اتفاقًا وائتلافًا من المتفلسفة؛ إذ للفلاسفة في الإلهيات والمعاد والنبوات، بل وفي الطبيعيات والرياضيات، وصفات الأفلاك، من الأقوال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال.
وقد ذكر من جمع مقالات الأوائل، مثل أبي الحسن الأشعري في كتاب المقالات، ومثل القاضي أبي بكر في كتاب [الدقائق] من مقالاتهم، بقدر ما يذكره الفارابي، وابن سينا، وأمثالهما أضعافًا مضاعفة.
وأهل الإثبات من المتكلمين ـ مثل الكلابية والكرامية والأشعرية ـ أكثر اتفاقًا وائتلافًا من المعتزلة، فإن في المعتزلة من الاختلافات وتكفير بعضهم بعضًا، حتى ليكفر التلميذ أستاذه، من جنس ما بين الخوارج، وقد ذكر من صَنَّف في فضائح المعتزلة من ذلك ما يطول وصفه، ولست تجد اتفاقًا وائتلافًا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث، وما يتبع ذلك، ولا تجد افتراقًا واختلافًا إلا عند من ترك ذلك وقدم غيره عليه، قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 ،119]، فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولاً وفعلاً، وهم أهل القرآن والحديث من هذه الأمة، فمن خالفهم في شيء فاته من الرحمة بقدر ذلك.
ولهذا لما كانت الفلاسفة أبعد عن اتباع الأنبياء، كانوا أعظم اختلافًا، و الخوارج والمعتزلة والروافض لما كانوا ـ أيضًا ـ أبعد عن السنة والحديث، كانوا أعظم افتراقًا في هذه، لاسيما الرافضة، فإنه يقال: إنهم أعظم الطوائف اختلافًا؛ وذلك لأنهم أبعد الطوائف عن السنة والجماعة، بخلاف المعتزلة فإنهم أقرب إلى ذلك منهم.
وأبو محمد بن قتيبة ـ في أول كتاب مختلف الحديث ـ لما ذكر أهل الحديث وأئمتهم، وأهل الكلام وأئمتهم، قفى بذكر أئمة هؤلاء ووصف أقوالهم وأعمالهم، ووصف أئمة هؤلاء، وأقوالهم وأفعالهم بما يبين لكل أحد أن أهل الحديث هم أهل الحق والهدى، وأن غيرهم أولى بالضلال والجهل والحشو والباطل .
وأيضًا، المخالفون لأهل الحديث هم مظنة فساد الأعمال؛ إما عن سوء عقيدة ونفاق، وإما عن مرض في القلب وضعف إيمان، ففيهم من ترك الواجبات، واعتداء الحدود والاستخفاف بالحقوق وقسوة القلب، ما هو ظاهر لكل أحد، وعامة شيوخهم يرمون بالعظائم، وإن كان فيهم من هو معروف بزهد وعبادة، ففي زهد بعض العامة من أهل السنة وعبادته ما هو أرجح مما هو فيه.
ومن المعلوم أن العلم أصل العمل، وصحة الأصول توجب صحة الفروع، والرجل لا يصدر عنه فساد العمل إلا لشيئين؛ إما الحاجة، وإما الجهل، فأما العالم بقبح الشيء الغني عنه فلا يفعله، اللهم إلا من غلب هواه عقله واستولت عليه المعاصي، فذاك لون آخر وضرب ثان.
وأيضاً، فإنه لا يعرف من أهل الكلام أحد إلا وله في الإسلام مقالة يكفر قائلها عموم المسلمين حتى أصحابه، وفي التعميم ما يغني عن التعيين، فأي فريق أحق بالحشو والضلال من هؤلاء؟ وذلك يقتضي وجود الردة فيهم، كما يوجد النفاق فيهم كثيرًا.
وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال: إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي تعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين، بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر مخالفها؛ مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين والشمس والقمر والكواكب والأصنام وغير ذلك، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل أمره بالصلوات الخمس، وإيجابه لها وتعظيم شأنها، ومثل معاداته لليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك.
ثم تجد كثيرًا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأمور، فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون إلى الإسلام، فقد حكى عن الجهم بن صفوان: أنه ترك الصلاة أربعين يومًا لا يرى وجوبها، كرؤساء العشائر مثل الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ونحوهم ممن ارتد عن الإسلام ودخل فيه، ففيهم من كان يتهم بالنفاق ومرض القلب، وفيهم من لم يكن كذلك.
أو يقال: هم لما فيهم من العلم يشبهون بعبد الله بن أبي سرح، الذي كان كاتب الوحي، فارتد ولحق بالمشركين، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه عام الفتح، ثم أتى به عثمان إليه فبايعه على الإسلام.
فمن صنف في مذهب المشركين ونحوهم، أحسن أحواله: أن يكون مسلمًا، فكثير من رؤوس هؤلاء هكذا، تجده تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، وتارة يعود إليه مع مرض في قلبه ونفاق، وقد يكون له حال ثالثة يغلب الإيمان فيها النفاق، لكن قل أن يسلموا من نوع نفاق، والحكايات عنهم بذلك مشهورة، وقد ذكر ابن قتيبة من ذلك طرفًا في أول [مختلف الحديث]، وقد حكى أهل المقالات لبعضهم عن بعض من ذلك طرفًا، كما يذكره أبو عيسى الوراق والنوبختي وأبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر بن الباقلاني، وأبوعبد الله الشهرستاني، وغيرهم، ممن يذكر مقالات أهل الكلام.
وأبلغ من ذلك أن منهم من يصنف في دين المشركين والردة عن الإسلام، كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب والأصنام، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون تاب منه وعاد إلى الإسلام.
ومن العجب، أن أهل الكلام يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد، ليسوا أهل نظر واستدلال، وأنهم ينكرون حجة العقل. وربما حكي إنكار النظر عن بعض أئمة السنة، وهذا مما ينكرونه عليهم.
فيقال لهم: ليس هذا بحق؛ فإن أهل السنة والحديث لا ينكرون ما جاء به القرآن، هذا أصل متفق عليه بينهم، والله قد أمر بالنظر والاعتبار والتفكر والتدبر في غير آية، ولا يعرف عن أحد من سلف الأمة ولا أئمة السنة وعلمائها أنه أنكر ذلك، بل كلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة، من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر وغير ذلك، ولكن وقع اشتراك في لفظ [النظر والاستدلال] ولفظ [الكلام]، فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم، فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لإنكار جنس النظر والاستدلال.
وهذا كما أن طائفة من أهل الكلام يسمى ما وضعه [أصول الدين]، وهذا اسم عظيم، والمسمى به فيه من فساد الدين ما الله به عليم. فإذا أنكر أهل الحق والسنة ذلك، قال المبطل: قد أنكروا أصول الدين. وهم لم ينكروا ما يستحق أن يسمى أصول الدين، وإنما أنكروا ما سماه هذا أصول الدين، وهي أسماء سموها هم وآباؤهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، فالدين ما شرعه الله ورسوله، وقد بين أصوله وفروعه، ومن المحال أن يكون الرسول قد بين فروع الدين دون أصوله، كما قد بينا هذا في غير هذا الموضع، فهكذا لفظ النظر، والاعتبار، والاستدلال.
وعامة هذه الضلالات إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة،كما كان الزهري يقول: كان علماؤنا يقولون: الاعتصام بالسنة هو النجاة، وقال مالك: السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق.
وذلك أن السنة والشريعة والمنهاج هو الصراط المستقيم، الذي يوصل العباد إلى الله. والرسول هو الدليل الهادي الخِرِّيت-[الخِرِّيت: الدليل الحاذق]- في هذا الصراط، كما قال تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب:45 ،46]، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} [الشورى:53،52]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، وقال عبد الله بن مسعود: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا، وخط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال: (هذا سبيل الله، وهذه سُبُل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه). ثم قرأ: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} .
وإذا تأمل العاقل ـ الذي يرجو لقاء الله ـ هذا المثال، وتأمل سائر الطوائف من الخوارج، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، والرافضة، ومن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلام، مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم، وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث، ويدعي أن سبيله هو الصواب، وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم ،الذي لا يتكلم عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
والعجب أن من هؤلاء من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث ـ لاسيما في أخبار الصفات ـ حمل الحديث على عقله وصرح بتقديمه على الحديث، وجعل عقله ميزانًا للحديث، فليت شعري هل عقله هذا كان مصرحًا بتقديمه في الشريعة المحمدية، فيكون من السبيل المأمور باتباعه، أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل ؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وهؤلاء الاتحادية وأمثالهم، إنما أتوا من قلة العلم والإيمان بصفات الله التي يتميز بها عن المخلوقات، وقلة اتباع السنة وطريقة السلف في ذلك، بل قد يعتقدون من التجهم ما ينافي السنة، تلقيًا لذلك عن متفلسف أو متكلم، فيكون ذلك الاعتقاد صادًا لهم عن سبيل الله، كلما أرادت قلوبهم أن تتقرب إلى ربها، وتسلك الصراط المستقيم إليه، وتعبده ـ كما فطروا عليه، وكما بلغتهم الرسل من علوه وعظمته ـ صرفتهم تلك العوائق المضلة عن ذلك، حتى تجد خلقًا من مقلدة الجهمية يوافقهم بلسانه، وأما قلبه فعلى الفطرة والسنة، وأكثرهم لا يفهمون ما النفي الذي يقولونه بألسنتهم، بل يجعلونه تنزيهًا مطلقًا مجملاً.
ومنهم من لا يفهم قول الجهمية. بل يفهم من النفي معنى صحيحًا، ويعتقد أن المثبت يثبت نقيض ذلك، ويسمع من بعض الناس ذكر ذلك.
مثل أن يفهم من قولهم: ليس في جهة، ولا له مكان، ولا هو في السماء، أنه ليس في جوف السموات، وهذا معنى صحيح، وإيمانه بذلك حق، ولكن يظن أن الذين قالوا هذا النفي اقتصروا على ذلك، وليس كذلك، بل مرادهم: أنه ما فوق العرش شيء أصلاً، ولا فوق السموات إلا عدم محض، ليس هناك إله يعبد، ولا رب يدعى ويسأل، ولا خالق خلق الخلائق، ولا عُرج بالنبي إلى ربه أصلا، هذا مقصودهم.
وهذا هو الذي أوقع الاتحادية في قولهم: هو نفس الموجودات؛ إذ لم تجد قلوبهم موجودًا إلا هذه الموجودات، إذا لم يكن فوقها شيء آخر، وهذا من المعارف الفطرية الشهودية الوجودية: أنه ليس إلا هذا الوجود المخلوق، أو وجود آخر مباين له متميز عنه، لاسيما إذا علموا أن الأفلاك مستديرة وأن الأعلى هو المحيط؛ فإنهم يعلمون أنه ليس إلا هذا الوجود المخلوق، أو موجود فوقه.
فإذا اعتقدوا مع ذلك أنه ليس هناك وجود آخر ولا فوق العالم شيء، لزم أن يقولوا: هو هذا الوجود المخلوق، كما قال الاتحادية. وهذه بعينها هي حجة الاتحادية. وهذا بعينه هو مشرب قدماء الجهمية وحدثائهم كما يقولون: هو في كل مكان، وليس هو في مكان. ولايختص بشيء، يجمعون دائمًا بين القولين المتناقضين؛ لأنهم يريدون إثبات موجود، وليس عندهم شيء فوق العالم، فتعين أن يكون هو العالم أو يكون فيه. ثم يريدون إثبات شيء غير المخلوق، فيقولون: ليس هو في العالم كما ليس خارجًا عنه، أو يقولون: هو وجود المخلوقات دون أعيانها، أو يقولون: هو الوجود المطلق فيثبتونه فيما يثبتون؛ إذ كانت قلوبهم متشابهة في النفي والتعطيل، وهو إنكار موجود حقيقي مباين للمخلوقات عالٍ عليها. وإنما يفترقون فيما يثبتونه، ويكرهون فطرهم وعقولهم على قبول المحال المتناقض، فيقولون: هو في العالم، وليس هو فيه، أو هو العالم وليس إياه، أو يغلبون الإثبات فيقولون: بل هو نفس الوجود، أو النفي، فيقولون: ليس في العالم ولا خارجًا عنه، أو يدينون بالإثبات في حال وبالنفي في حال، إذا غلب على أحدهم عقله غلب النفي، وهو أنه ليس في العالم، وإذا غلب عليه الوجْد والعبادة رجح الإثبات وهو أنه في هذا الوجود أو هو هو، لا تجد جهميًا إلا على أحد هذه الوجوه الأربعة، وإن تنوعوا فيما يثبتونه ـ كما ذكرته لك ـ فهم مشتركون في التعطيل .
وقد رأيت منهم ومن كتبهم، وسمعت منهم وممن يخبر عنهم من ذلك ما شاء الله، وكلهم على هذه الأحوال ضالون عن معبودهم وإلههم وخالقهم. ثم رأيت كلام السلف والأئمة كلهم يصفونهم بمثل ذلك. فمَنَّ الله علينا باتباع سبيل المؤمنين وآمنا بالله وبرسوله، وكل هؤلاء يجد نفسه مضطربة في هذا الاعتقاد؛ لتناقضه في نفسه، وإنما يسكن بعض اضطرابه نوع تقليد لمعظم عنده، أو خوفه من مخالفة أصحابه، أو زعمه أن هذا من حكم الوهم والخيال دون العقل.
وهذا التناقض في إثبات هذا الموجود الذي ليس بخارج عن العالم ولا هو العالم، الذي ترده فطرهم وشهودهم وعقولهم، غير ما في الفطرة من الإقرار بصانع فوق العالم، فإن هذا إقرار الفطرة بالحق المعروف، وذاك إنكار الفطرة بالباطل المنكر.
ومن هذا الباب: ما ذكره محمد بن طاهر المقدسي في حكايته المعروفة: أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مرة، والأستاذ أبو المعالي يذكر على المنبر: كان الله ولا عرش، ونفى الاستواء ـ على ما عرف من قوله، وإن كان في آخر عمره رجع عن هذه العقيدة، ومات على دين أمه وعجائز نيسابور ـ قال: فقال الشيخ أبو جعفر: يا أستاذ، دعنا من ذكر العرش ـ يعني: لأن ذلك إنما جاء في السمع ـ أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا: ما قال عارف قط: يا ألله إلا وجد من قلبه معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ فصرخ أبو المعالي، ووضع يده على رأسه، وقال: حيرني الهمداني، أو كما قال، ونزل.
فهذا الشيخ تكلم بلسان جميع بني آدم، فأخبر أن العرش والعلم باستواء الله عليه، إنما أخذ من جهة الشرع وخبر الكتاب والسنة، بخلاف الإقرار بعلو الله على الخلق من غير تعيين عرش ولا استواء، فإن هذا أمر فطري ضروري نجده في قلوبنا نحن وجميع من يدعو الله ـ تعالى ـ فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا ؟!
والجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟) قالت: في السماء. قال: (أعتقها فإنها مؤمنة) ،جارية أعجمية، أرأيت من فقَّهها وأخبرها بما ذكرته؟ وإنما أخبرت عن الفطرة التي فطرها الله ـ تعالى ـ عليها، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وشهد لها بالإيمان.
فليتأمل العاقل ذلك يجده هاديًا له على معرفة ربه، والإقرار به كما ينبغي، لا ما أحدثه المتعمقون والمتشدقون ممن سول لهم الشيطان وأملى لهم.
ومن أمثلة ذلك: أن الذين لبسوا الكلام بالفلسفة ـ من أكابر المتكلمين ـ تجدهم يعدون من الأسرار المصونة والعلوم المخزونة، ما إذا تدبره من له أدنى عقل ودين، وجد فيه من الجهل والضلال ما لم يكن يظن أنه يقع فيه هؤلاء، حتى قد يكذب بصدور ذلك عنهم، مثل تفسير حديث المعراج الذي ألفه [أبوعبد الله الرازي]، الذي احتذى فيه حذو ابن سينا، و[عين القضاة الهمداني]، فإنه روى حديث المعراج بسياق طويل وأسماء عجيبة، وترتيب لا يوجد في شيء من كتب المسلمين، لا في الأحاديث الصحيحة ولا الحسنة، ولا الضعيفة المروية عند أهل العلم، وإنما وضعه بعض السؤال والطرقية، أو بعض شياطين الوعاظ أو بعض الزنادقة.
ثم إنه مع الجهل بحديث المعراج ـ الموجود في كتب الحديث والتفسير والسيرة، وعدوله عما يوجد في هذه الكتب إلى ما لم يسمع من عالم، ولا يوجد في أثارة من علم ـ فسره بتفسير الصابئة الضالة المنجمين، وجعل معراج الرسول ترقيه بفكره إلى الأفلاك، وأن الأنبياء الذين رآهم هم الكواكب، فآدم هو القمر، وإدريس هو الشمس، والأنهار الأربعة هي العناصر الأربعة، وأنه عرف الوجود الواجب المطلق، ثم إنه يعظم ذلك ويجعله من الأسرار والمعارف التي يجب صونها عن أفهام المؤمنين، وعلمائهم، حتى إن طائفة ممن كانوا يعظمونه لما رأوا ذلك تعجبوا منه غاية التعجب، وجعل بعض المتعصبين له يدفع ذلك، حتى أروه النسخة بخط بعض المشائخ المعروفين الخبيرين بحاله، وقد كتبها في ضمن كتابه الذي سماه:[المطالب العالية]، وجمع فيه عامة آراء الفلاسفة والمتكلمين.
وتجد أبا حامد الغزالي ـ مع أن له من العلم بالفقه والتصوف والكلام والأصول وغير ذلك، مع الزهد والعبادة وحسن القصد، وتبحره في العلوم الإسلامية أكثر من أولئك ـ يذكر في كتاب[الأربعين] ونحوه، كتابه:[المضنون به على غير أهله]، فإذا طلبت ذلك الكتاب واعتقدت فيه أسرار الحقائق وغاية المطالب، وجدته قول الصابئة المتفلسفة بعينه، قد غيرت عباراتهم وترتيباتهم، ومن لم يعلم حقائق مقالات العباد ومقالات أهل الملل، يعتقد أن ذاك هو السر الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأنه هو الذي يطلع عليه المكاشفون الذين أدركوا الحقائق بنور إلهي.
فإن أبا حامد كثيرًا ما يحيل في كتبه على ذلك النور الإلهي، وعلى ما يعتقد أنه يوجد للصوفية والعباد، برياضتهم وديانتهم من إدراك الحقائق وكشفها لهم، حتى يزنوا بذلك ما ورد به الشرع.
وسبب ذلك أنه كان قد علم بذكائه وصدق طلبه، ما في طريق المتكلمين والمتفلسفة من الاضطراب وآتاه الله إيمانًا مجملاً ـ كما أخبر به عن نفسه ـ وصار يتشوف إلى تفصيل الجملة، فيجد في كلام المشائخ والصوفية ما هو أقرب إلى الحق، وأولى بالتحقيق من كلام الفلاسفة والمتكلمين، والأمر كما وجده، لكن لم يبلغه من الميراث النبوي الذي عنـد خاصة الأمة من العلوم والأحوال، وما وصل إليه السابقون الأولون من العلم والعبادة، حتى نالوا من المكاشفات العلمية والمعاملات العبادية ما لم ينله أولئك.
فصار يعتقد أن تفصيل تلك الجملة يحصل بمجرد تلك الطريق، حيث لم يكن عنده طريق غيرها، لانسداد الطريقة الخاصة السنية النبوية عنه بما كان عنده من قلة العلم بها، ومن الشبهات التي تقلدها عن المتفلسفة والمتكلمين، حتى حالوا بها بينه وبين تلك الطريقة.
ولهذا كان كثير الذم لهذه الحوائل ولطريقة العلم، وإنما ذاك لعلمه الذي سلكه، والذي حجب به عن حقيقة المتابعة للرسالة، وليس هو بعلم، وإنما هو عقائد فلسفية وكلامية، كما قال السلف: العلم بالكلام هو الجهل، وكما قال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق.
ولهذا صار طائفة ممن يرى فضيلته وديانته يدفعون وجود هذه الكتب عنه، حتى كان الفقيه أبو محمد بن عبد السلام ـ فيما علقه عنه ـ ينكر أن يكون [بداية الهداية] من تصنيفه، ويقول: إنما هو تقول عليه، مع أن هذه الكتب مقبولها أضعاف مردودها، والمردود منها أمور مجملة، وليس فيها عقائد، ولا أصول الدين.
وأما المضنون به على غير أهله، فقد كان طائفة أخرى من العلماء يكذبون ثبوته عنه، وأما أهل الخبرة به وبحاله، فيعلمون أن هذا كله كلامه، لعلمهم بمواد كلامه ومشابهة بعضه بعضًا، ولكن كان هو وأمثاله ـ كما قدمت ـ مضطربين لا يثبتون على قول ثابت؛ لأن عندهم من الذكاء والطلب ما يتشوفون به إلى طريقة خاصة الخلق، ولم يقدر لهم سلوك طريق خاصة هذه الأمة، الذين ورثوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم العلم والإيمان، وهم أهل حقائق الإيمان والقرآن ـ كما قدمناه ـ وأهل الفهم لكتاب الله والعلم والفهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباع هذا العلم بالأحوال والأعمال المناسبة لذلك، كما جاءت به الرسالة.
ولهذا كان الشيخ أبو عمرو بن الصلاح -[هو أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي الشهرزوري، المعروف بابن الصلاح، الفقيه الشافعي، ولد سنة 577هـ، صنف في علوم الحديث، وتوفي في سنة 643هـ بدمشق.]- يقول ـ فيما رأيته بخطه ـ: أبو حامد كثر القول فيه ومنه.
فأما هذه الكتب ـ يعني المخالفة للحق ـ فلا يلتفت إليها، وأما الرجل فيسكت عنه، ويفوض أمره إلى الله .
ومقصوده أنه لا يذكر بسوء؛ لأن عفو الله عن الناسى والمخطئ وتوبة المذنب تأتي على كل ذنب، وذلك من أقرب الأشياء إلى هذا وأمثاله، ولأن مغفرة الله بالحسنات منه ومن غيره، وتكفيره الذنوب بالمصائب تأتي على محقق الذنوب، فلا يقدم الإنسان على انتفاء ذلك في حق معين إلا ببصيرة، لاسيما مع كثرة الإحسان والعلم الصحيح، والعمل الصالح والقصد الحسن، وهو يميل إلى الفلسفة، لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية.
ولهذا، فقد رد عليه علماء المسلمين ،حتى أخص أصحابه أبو بكر بن العربي، فإنه قال: شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر.
وقد حكى عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كتبه. ورد عليه أبو عبد الله المازري في كتاب أفرده، ورد عليه أبو بكر الطرطوشي، ورد عليه أبو الحسن المرغيناني رفيقه، رد عليه كلامه في مشكاة الأنوار ونحوه، ورد عليه الشيخ أبو البيان، والشيخ أبو عمرو بن الصلاح، وحذر من كلامه في ذلك هو وأبو زكريا النواوي وغيرهما ،ورد عليه ابن عقيل، وابن الجوزي ،وأبو محمد المقدسي وغيرهم.
وهذا باب واسع، فإن الخارجين عن طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، لهم في كلام الرسول ثلاث طرق: طريقة التخييل، وطريقة التأويل، وطريقة التخييل.
فأهل التخييل: هم الفلاسفة والباطنية، الذين يقولون: إنه خيل أشياء، لا حقيقة لها في الباطن، وخاصية النبوة عندهم التخييل.
وطريقة التأويل: طريقة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم، يقولون: إن ما قاله له تأويلات تخالف ما دل عليه اللفظ، وما يفهم منه، وهو ـ وإن كان لم يبين مراده ولا بين الحق الذي يجب اعتقاده ـ فكان مقصوده: أن هذا يكون سببًا للبحث بالعقل، حتى يعلم الناس الحق بعقولهم، ويجتهدوا في تأويل ألفاظه إلى ما يوافق قولهم؛ ليثابوا على ذلك، فلم يكن قصده لهم البيان والهداية، والإرشاد والتعليم، بل قصده التعمية والتلبيس، ولم يعرفهم الحق حتى ينالوا الحق بعقلهم، ويعرفوا حينئذ أن كلامه لم يقصد به البيان، فيجعلوا حالهم في العلم مع عدمه خيرًا من حالهم مع وجوده.
وأولئك المتقدمون، كابن سينا وأمثاله، ينكرون على هؤلاء، ويقولون: ألفاظه كثيرة، صريحة لا تقبل التأويل، لكن كان قصده التخييل، وأن يعتقد الناس الأمر على خلاف ما هو عليه.
وأما الصنف الثالث: الذين يقولون: إنهم أتباع السلف، فيقولون: إنه لم يكن الرسول يعرف معنى ما أنزل عليه من هذه الآيات، ولا أصحابه يعلمون معنى ذلك، بل لازم قولهم: أنه هو نفسه لم يكن يعرف معنى ما تكلم به من أحاديث الصفات، بل يتكلم بكلام لا يعرف معناه، والذين ينتحلون مذهب السلف يقولون: إنهم لم يكونوا يعرفون معاني النصوص، بل يقولون ذلك في الرسول. وهذا القول من أبطل الأقوال، ومما يعتمدون عليه من ذلك ما فهموه من قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} [آل عمران:7]، ويظنون أن التأويل هو المعنى الذي يسمونه هم تأويلا، وهو مخالف للظاهر.
ثم هؤلاء قد يقولون: تجري النصوص على ظاهرها، وتأويلها لا يعلمه إلا الله، ويريدون بالتأويل ما يخالف الظاهر، وهذا تناقض منهم. وطائفة يريدون بالظاهر ألفاظ النصوص فقط، والطائفتان غالطتان في فهم الآية.
وذلك أن لفظ [التأويل] قد صار بسبب تعدد الاصطلاحات، له ثلاثة معان:
أحدها: أن يراد بالتأويل حقيقة ما يؤول إليه الكلام، وإن وافق ظاهره. وهذا هو المعنى الذي يراد بلفظ التأويل في الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53]، ومنه قول عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا ولك الحمد، اللهم اغفر لي)، يتأوَّلُ القرآن .
والثاني: يراد بلفظ التأويل :التفسير، وهو اصطلاح كثير من المفسرين، ولهذا قال مجاهد ـ إمام أهل التفسير: إن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، فإنه أراد بذلك تفسيره وبيان معانيه، وهذا مما يعلمه الراسخون.
والثالث: أن يراد بلفظ [التأويل]: صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه ظاهره إلى ما يخالف ذلك؛ لدليل منفصل يوجب ذلك. وهذا التأويل لا يكون إلا مخالفًا لما يدل عليه اللفظ ويبينه. وتسمية هذا تأويلاً لم يكن في عرف السلف، وإنما سمى هذا وحده تأويلاً طائفة من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام، وظن هؤلاء أن قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} [آل عمران:7]، يراد به هذا المعنى، ثم صاروا في هذا التأويل على طريقين: قوم يقولون: إنه لا يعلمه إلا الله. وقوم يقولون: إن الراسخين في العلم يعلمونه، وكلتا الطائفتين مخطئة.
فإن هذا التأويل في كثير من المواضع ـ أو أكثرها وعامتها ـ من باب تحريف الكلم عن مواضعه، من جنس تأويلات القرامطة والباطنية. وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، ورموا في آثارهم بالشُّهُب.
وقد صنف الإمام أحمد كتابًا في الرد على هؤلاء، وسماه: [الرد على الزنادقة والجهمية، فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله] فعاب أحمد عليهم أنهم يفسرون القرآن بغير ما هو معناه، ولم يقل أحمد ولا أحد من الأئمة: إن الرسول لم يكن يعرف معاني آيات الصفات وأحاديثها، ولا قالوا: إن الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يعرفوا تفسير القرآن ومعانيه.
كيف وقد أمر الله بتدبر كتابه، فقال تعالى :{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29]، ولم يقل: بعض آياته؟ وقال: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82، محمد:24]، وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68]، وأمثال ذلك في النصوص التي تبين أن الله يحب أن يتدبر الناس القرآن كله، وأنه جعله نورًا وهدى لعباده، ومحال أن يكون ذلك مما لا يفهم معناه، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ـ عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود ـ أنهم قالوا: كنا إذا تعلمنا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم نجاوزها، حتى نتعلم ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن من يقول في الرسول وبيانه للناس مما هو من قول الملاحدة، فكيف يكون قوله في السلف؟ حتى يدعي اتباعه، وهو مخالف للرسول والسلف عند نفسه وعند طائفته، فإنه قد أظهر من قول النفاة ما كان الرسول يرى عدم إظهاره، لما فيه من فساد الناس. وأما عند أهل العلم والإيمان فلا.
وقول النفاة باطل باطنًا وظاهرًا، والرسول صلى الله عليه وسلم ومتبعوه منزهون عن ذلك، بل مات صلى الله عليه وسلم وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وأخبرنا أن كل ما حدث بعده من محدثات الأمور فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة .
وربما أنشد بعض أهل الكلام بيت مجنون بني عامر:
وكل يدعي وصلا لليلى ** وليلى لا تقر لهم بذاكا
فمن قال: من الشعر ما هو حكمة، أو تمثل ببيت من الشعر فيما تبين له أنه حق، كان قريبًا. أما إثبات الدعوى بمجرد كلام منظوم من شعر أو غيره، فيقال لصاحبه: ينبغي أن تبين أن السلف لا يقرون بمن انتحلتهم. وهذا ظاهر فيما ذكره هو وغيره، ممن يقولون عن السلف ما لم يقولوه، ولم ينقله عنهم أحد له معرفة بحالهم، وعدل فيما نقل، فإن الناقل لابد أن يكون عالمًا عدلاً.
فإن فرض أن أحدًا نقل مذهب السلف كما يذكره، فإما أن يكون قليل المعرفة بآثار السلف، كأبي المعالي، وأبي حامد الغزالي، وابن الخطيب وأمثالهم، ممن لم يكن لهم من المعرفة بالحديث ما يعدون به من عوام أهل الصناعة، فضلاً عن خواصها، ولم يكن الواحد من هؤلاء يعرف البخاري ومسلمًا وأحاديثهما، إلا بالسماع، كما يذكر ذلك العامة، ولا يميزون بين الحديث الصحيح المتواتر عند أهل العلم بالحديث، وبين الحديث المفترى المكذوب، وكتبهم أصدق شاهد بذلك ففيها عجائب.
وتجد عامة هؤلاء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك، إما عند الموت وإما قبل الموت، والحكايات في هذا كثيرة معروفة.
هذا أبو الحسن الأشعري، نشأ في الاعتزال أربعين عامًا يناظر عليه، ثم رجع عن ذلك وصرح بتضليل المعتزلة، وبالغ في الرد عليهم.
وهذا أبو حامد الغزالي ـ مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلام والفلسفة، وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف ـ ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة، ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث، وصنف [إلجام العوام عن علم الكلام].
وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، وكان يتمثل كثيرًا:
نهاية إقـــــدام العقــول عقـــال ** وأكـثر سعي العالمين ضـــلال
وأرواحنــا فـي وحشة مـن جسومــنا ** وحاصـل دنيـانا أذى ووبـــال
ولـم نستفد مــن بحثنا طول عمـرنــا ** سوى أن جمـعنا فيـه قيـل وقالـوا
وهذا إمام الحرمين، ترك ما كان ينتحله ويقرره، واختار مذهب السلف. وكان يقول: يا أصحابنا، لا تشتغلوا بالكلام ! فلو أنى عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به، وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت فيما نهوني عنه. والآن: إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنذا أموت على عقيدة أمي ـ أو قال: عقيدة عجائز نيسابور.
وكذلك قال أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني [-هو شيخ أهل الكلام والحكمة، برع في الفقه، وكان قوي الفهم، مليح الوعظ، صنف كتاب، نهاية الإقدام و كتاب الملل والنحل، وتوفي سنة 645-]: أخبر أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، وكان ينشد:
لعمري لقد طفت المعاهد كلـها ** وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعًا كف حائــر ** على ذقن، أو قارعـًا سن نادم
وابن الفارض ـ من متأخري الاتحادية، صاحب القصيدة التائية المعروفة بـ [نظم السلوك]، وقد نظم فيها الاتحاد نظمًا رائق اللفظ، فهو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب. وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك! الله أعلم بها وبما اشتملت عليه وقد نفقت كثيرًا، وبالغ أهل العصر في تحسينها والاعتداد بما فيها من الاتحاد ـ لما حضرته الوفاة أنشد:
إن كان منزلتي في الحب عندكم ** ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت نفسي بها زمــنًا ** واليوم أحسبها أضغاث أحـلام
ولقد كان من أصول الإيمان: أن يثبت الله العبد بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} [إبراهيم:24ـ27].
والكلمة أصل العقيدة؛ فإن الاعتقاد هو الكلمة التي يعتقدها المرء، وأطيب الكلام والعقائد كلمة التوحيد واعتقاد أن لا إله إلا الله، وأخبث الكلام والعقائد كلمة الشرك، وهو اتخاذ إله مع الله، فإن ذلك باطل لا حقيقة له؛ ولهذا قال سبحانه:{مّا لّهّا مٌن قّرّارُ}؛ ولهذا كان كلما بحث الباحث وعمل العامل على هذه الكلمات والعقائد الخبيثة لا يزداد إلا ضلالاً وبعدًا عن الحق وعلمًا ببطلانها، كما قال تعالى :{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور:39، 40].
فذكر ـ سبحانه ـ مثلين :
أحدهما: مثل الكفر والجهل المركب الذي يحسبه صاحبه موجودًا، وفي الواقع يكون خيالاً معدومًا كالسراب، وأن القلب عطشان إلى الحق كعطش الجسد إلى الماء. فإذا طلب ما ظنه ماءًا وجده سرابًا، ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب وهكذا تجد عامة هؤلاء الخارجين عن السنة والجماعة.
والمثل الثاني: مثل الكفر والجهل البسيط الذي لا يتبين فيه صاحبه حقًا ولا يرى فيه هدى، والكفر المركب مستلزم للبسيط، وكل كفر فلابد فيه من جهل مركب.
فضرب الله ـ سبحانه ـ المثلين بذلك ليبين حال الاعتقاد الفاسد، ويبين حال عدم معرفة الحق ـ وهو يشبه حال المغضوب عليهم والضالين ـ حال المصمم على الباطل حتى يحل به العذاب، وحال الضال الذي لا يرى طريق الهدى.
فنسأل الله العظيم أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يرزقنا الاعتصام بالكتاب والسنة.
ومن أمثلة ما ينسبه كثير من أتباع المشائخ والصوفية إلى المشائخ الصادقين من الكذب والمحال، أو يكون من كلامهم المتشابه الذي تأولوه على غير تأويله، أو يكون من غلطات بعض الشيوخ وزلاتهم، أو من ذنوب بعضهم وخطئهم مثل: كثير من البدع والفجور الذي يفعله بعضهم بتأويل سائغ أو بوجه غير سائغ، فيعفى عنه أو يتوب منه أو يكون له حسنات يغفر له بها، أو مصائب يكفر عنه بها، أو يكون من كلام المتشبهين بأولياء الله من ذوي الزهادات والعبادات والمقامات، وليس هو من أولياء الله المتقين، بل من الجاهلين الظالمين المعتدين، أو المنافقين أو الكافرين.
وهذا كثير ملأ العالم، تجد كل قوم يدعون من الاختصاص بالأسرار والحقائق ما لا يدعى المرسلون، وأن ذلك عند خواصهم، وأن ذلك لا ينبغي أن يقابل إلا بالتسليم، ويحتجون لذلك بأحاديث موضوعة، وتفسيرات باطلة. مثل قولهم عن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث هو وأبو بكر بحديث، وكنت كالزنجي بينهما،فيجعلون عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم وصديقه كالزنجي. وهو حاضر يسمع الكلام، ثم يدعي أحدهم أنه علم ذلك بما قذف في قلبه، ويدعي كل منهم أن ذلك هو ما يقوله من الزور والباطل، ولو ذكرت ما في هذا الباب من أصناف الدعاوي الباطلة لطال.
فمنهم من يجعل للشيخ قصائد يسميها [جنيب القرآن]، ويكون وجده بها وفرحه بمضمونها أعظم من القرآن، و يكون فيها من الكذب والضلال أمور.
ومنهم من يجعل له قصائد في الاتحاد، وأنه خالق جميع الخلق، وأنه خلق السموات والأرض، وأنه يسجد له ويعبد.
ومنهم من يصف ربه في قصائده بما نقل في الموضوعات من أصناف التمثيل والتكييف والتجسيم، التي هي كذب مفترى وكفر صريح مثل: مواكلته ومشاربته، ومماشاته ومعانقته، ونزوله إلى الأرض وقعوده في بعض رياض الأرض، ونحو ذلك، ويجعل كل منهم ذلك من الأسرار المخزونة والعلوم المصونة التي تكون لخواص أولياء الله المتقين.
ومن أمثلة ذلك: أنك تجد عند الرافضة والمتشيعة، ومن أخذ عنهم مِنْ دعوى علوم الأسرار، والحقائق، التي يدعون أخذها عن أهل البيت، إما من العلوم الدينية، وإما من علم الحوادث الكائنة، ما هو عندهم من أجل الأمور التي يجب التواصي بكتمانها، والإيمان بما لا يعلم حقيقته من ذلك، وجميعها كذب مختلق وإفك مفترى.
فإن هذه الطائفة [الرافضة] من أكثر الطوائف كذبًا وادعاء للعلم المكتوم؛ ولهذا انتسبت إليهم الباطنية والقرامطة.
وهؤلاء خرج أولهم في زمن أمير المؤمنين على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وصاروا يدعون أنه خص بأسرار من العلوم والوصية، حتى كان يسأله عن ذلك خواص أصحابه، فيخبرهم بانتفاء ذلك، ولما بلغه أن ذلك قد قيل، كان يخطب الناس وينفي ذلك عن نفسه.
وقد خرَّجَ أصحاب الصحيح كلام عليٍّ هذا من غير وجه، مثل ما في الصحيح عن أبي جُحَيْفَة قال: سألت عليا: هل عندكم شيء ليس في القرآن؟ فقال: (لا، والذي فلق الحبة وبَرَأ النَّسَمَة، ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهما يعطيه الله الرجل في كتابه وما في هذه الصحيفة. قلت:وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر. ولفظ البخارى: هل عندكم شيء من الوحي غير ما في كتاب الله ؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن).
وفـي الصحيحـين عن إبراهيم التيمي عن أبيه ـ وهذا من أصح إسناد على وجه الأرض ـ عن علي قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرام ما بين عير إلى ثور)، وفي رواية لمسلم: خطبنا على بن أبي طالب فقال: من زعم أن عندنا كتابًا نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة ـ قال: وصحيفته معلقة في قراب سيفه ـ فقد كذب، فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات، وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرام) الحديث.
وأما الكذب والأسرار التي يدعونها عن جعفر الصادق، فمن أكبر الأشياء كذبًا حتى يقال: ما كذب على أحد ما كذب على جعفر ـ رضي الله عنه.
ومن هذه الأمور المضافة: كتاب [الجَفْر]، الذي يدعون أنه كتب فيه الحوادث. والجفر: ولد الماعز، يزعمون أنه كتب ذلك في جلده، وكذلك كتاب [البطاقة] الذي يدعيه ابن الحِلِّيّ ونحوه من المغاربة، ومثل كتاب: [الجدول] في الهلال، و[الهفت] عن جعفر وكثير من تفسير القرآن وغيره.
ومثل كتاب [رسائل إخوان الصفا] الذي صنفه جماعة في دولة بني بويه ببغداد، وكانوا من الصابئة المتفلسفة المتحنفة، جمعوا بزعمهم بين دين الصابئة المبدلين وبين الحنيفية وأتوا بكلام المتفلسفة، وبأشياء من الشريعة، وفيه من الكفر والجهل شيء كثير، ومع هذا فإن طائفة من الناس ـ من بعض أكابر قضاة النواحي ـ يزعم أنه من كلام جعفر الصادق. وهذا قول زنديق وتشنيع جاهل.
ومثل ما يذكره بعض العامة من ملاحم [ابن غنضب]، ويزعمون أنه كان معلمًا للحسن والحسين. وهذا شيء لم يكن في الوجود باتفاق أهل العلم، وملاحم [ابن غنضب] إنما صنفها بعض الجهال في دولة نور الدين ونحوها، وهو شعر فاسد يدل على أن ناظمه جاهل.
وكذلك عامة هذه الملاحم المروية بالنظم ونحوه، عامتها من الأكاذيب، وقد أحدث في زماننا من القضاة والمشائخ غير واحدة منها، وقد قررت بعض هؤلاء على ذلك، بعد أن ادعى قدمها، وقلت له: بل أنت صنفتها، ولبستها على بعض ملوك المسلمين لما كان المسلمون محاصرين عَكَّة، وكذلك غيره من القضاة وغيرهم لبسوا على غير هذا الملك.
وباب الكذب في الحوادث الكونية أكثر منه في الأمور الدينية؛ لأن تشوف الذين يغلبون الدنيا على الدين إلى ذلك أكثر وإن كان لأهل الدين إلى ذلك تشوف، لكن تشوفهم إلى الدين أقوى وأولئك ليس لهم من الفرقان بين الحق والباطل من النور ما لأهل الدين.فلهذا كثر الكذابون في ذلك ونفق منه شيء كثير، وأكلت به أموال عظيمة بالباطل، وقتلت به نفوس كثيرة من المتشوفة إلى الملك ونحوها.
ولهذا ينوِّعون طرق الكذب في ذلك ويتعمدون الكذب فيه، تارة بالإحالة على الحركات والأشكال الجسمانية الإلهية من حركات الأفلاك والكواكب، والشهب والرعود، والبروق والرياح، وغير ذلك، وتارة بما يحدثونه هم من الحركات والأشكال، كالضرب بالرمل والحصى والشعير، والقرعة باليد ونحو ذلك، مما هو من جنس الاستقسام بالأزلام، فإنهم يطلبون علم الحوادث بما يفعلونه من هذا الاستقسام بها، سواء كانت قداحًا أو حصًى، أو غير ذلك مما ذكره أهل العلم بالتفسير.
فكل ما يحدثه الإنسان بحركة من تغيير شيء من الأجسام؛ ليستخرج به علم ما يستقبله فهو من هذا الجنس، بخلاف الفأل الشرعي، وهو الذي كان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يخرج متوكلاً على الله فيسمع الكلمة الطيبة: (وكان يعجبه الفأل، ويكره الطيرة) لأن الفأل تقوية لما فعله بإذن الله والتوكل عليه، والطيرة معارضة لذلك، فيكره للإنسان أن يتطير، وإنما تضر الطيرة من تطير؛ لأنه أضر نفسه، فأما المتوكل على الله فلا.
وليس المقصود ذكر هذه الأمور وسبب إصابتها تارة وخطئها تارات. وإنما الغرض أنهم يتعمدون فيها كذبًا كثيرًا، من غير أن تكون قد دلت على ذلك دلالة، كما يتعمد خلق كثير الكذب في الرؤيا، التي منها الرؤيا الصالحة، وهي جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وكما كانت الجن تخلط بالكلمة تسمعها من السماء مائة كذبة، ثم تلقيها إلى الكهان.
ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله، إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالاً يأتون الكهان. قال: (فلا تأتهم). قال: قلت: ومنا رجال يتطيرون. قال: (ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدهم). قال: قلت: ومنا رجال يخطون. قال: ( كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك).
فإذا كان ما هو من أجزاء النبوة ومن أخبار الملائكة ما قد يتعمد فيه الكذب الكثير، فكيف بما هو في نفسه مضطرب لا يستقر على أصل؟ فلهذا تجد عامة من في دينه فساد يدخل في الأكاذيب الكونية، مثل أهل الاتحاد، فإن ابن عربي ـ في كتاب [عنقاء مغرب] وغيره ـ أخبر بمستقبلات كثيرة، عامتها كذب، وكذلك ابن سبعين، وكذلك الذين استخرجوا مدة بقاء هذه الأمة من حساب الجمل من حروف المعجم الذي ورثوه من اليهود، ومن حركات الكواكب الذي ورثوه من الصابئة، كما فعل أبو نصر الكندي، وغيره من الفلاسفة، وكما فعل بعض من تكلم في تفسير القرآن من أصحاب الرازي، ومن تكلم في تأويل وقائع النساك من المائلين إلى التشيع.
وقد رأيت من أتباع هؤلاء طوائف يدعون أن هذه الأمور من الأسرار المخزونة والعلوم المصونة، وخاطبت في ذلك طوائف منهم، وكنت أحلف لهم أن هذا كذب مفترى، وأنه لا يجري من هذه الأمور شيء، وطلبت مباهلة بعضهم؛ لأن ذلك كان متعلقًا بأصول الدين، وكانوا من الاتحادية الذين يطول وصف دعاويهم.
فإن شيخهم الذي هو عارف وقته وزاهده عندهم، كانوا يزعمون أنه هو المسيح الذي ينزل، وأن معنى ذلك نزول روحانية عيسى ـ عليه السلام ـ وأن أمه اسمها مريم، وأنه يقوم بجمع الملل الثلاث، وأنه يظهر مظهرًا أكمل من مظهر محمد وغيره من المرسلين. ولهم مقالات من أعظم المنكرات يطول ذكرها ووصفها.
ثم إن من عجيب الأمر، أن هؤلاء المتكلمين المدعين لحقائق الأمور العلمية والدينية المخالفين للسنة والجماعة يحتج كل منهم بما يقع له من حديث موضوع، أو مجمل لا يفهم معناه، وكلما وجد أثرًا فيه إجمال نزله على رأيه، فيحتج بعضهم بالمكذوب، مثل المكذوب المنسوب إلى عمر: كنت كالزنجي، ومثل ما يروونه من [سر المعراج]، وما يروونه من أن أهل الصُّفَّة -[أهل الصُّفَّة: هم فقراء المهاجرين، ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه، فكانوا يأوون إلى موضع مُظَلَّل في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم يسكنونه.-] سمعوا المناجاة من حيث لا يشعر الرسول، فلما نزل الرسول أخبروه، فقال: (من أين سمعتم؟) فقالوا: كنا نسمع الخطاب.
حتى إني لما بينت لطائفة ـ تمشيخوا وصاروا قدوة للناس ـ أن هذا كذب ما خلقه الله قط. قلت: ويبين لك ذلك أن المعراج كان بمكة بنص القرآن وبإجماع المسلمين، والصُّفَّة إنما كانت بالمدينة، فمن أين كان بمكة أهل صُفَّة؟
وكذلك احتجاجهم بأن أهل الصُفَّة قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع المشركين لما انتصروا، وزعموا أنهم مع الله؛ ليحتجوا بذلك على متابعة الواقع، سواء كان طاعة لله أو معصية؛ وليجعلوا حكم دينه هو ما كان، كما قال الذين أشركوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام: من الآية148] [الأنعام :148]، وأمثال هذه الموضوعات كثيرة.
وأما المجملات، فمثل احتجاجهم بنهي بعض الصحابة عن ذكر بعض خفي العلم، كقول على ـ رضي الله عنه ـ: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يُكَذَّب الله ورسوله ؟ وقول عبد الله بن مسعود: ما من رجل يحدث قومًا بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم، وقول عبد الله بن عباس في تفسير الآيات: ما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها كفرت، وكفرك بها تكذيبك بها.
وهذه الآثار حق، لكن ينزل كل منهم ذاك الذي لم يحدث به على ما يدعيه هو من الأسرار والحقائق، التي إذا كشفت وجدت من الباطل والكفر والنفاق، حتى إن أبا حامد الغزالي في [منهاج القاصدين] وغيره، هو وأمثاله تمثل بما يروى عن علي بن الحسين أنه قال:
فإذا كانت هذه طرق هؤلاء الذين يدعون من التحقيق وعلوم الأسرار ما خرجوا به عن السنة والجماعة، وزعموا أن تلك العلوم الدينية أو الكونية مختصة بهم، فآمنوا بمجملها ومتشابهها، وأنهم منحوا من حقائق العبادات وخالص الديانات ما لم يمنح الصدر الأول حفاظ الإسلام وبدور الملة، ولم يتجرؤوا عليها برد وتكذيب ـ مع ظهور الباطل فيها تارة، وخفائه أخرى ـ فمن المعلوم أن العقل والدين يقتضيان أن جانب النبوة والرسالة أحق بكل تحقيق وعلم ومعرفة، وإحاطة بأسرار الأمور وبواطنها.
هذا لا ينازع فيه مؤمن، ونحن الآن في مخاطبة من في قلبه إيمان.
وإذا كان الأمر كذلك فأعلم الناس بذلك أخصهم بالرسول، وأعلمهم بأقواله، وأفعاله، وحركاته، وسكناته، ومدخله، ومخرجه، وباطنه، وظاهره، وأعلمهم بأصحابه وسيرته وأيامه، وأعظمهم بحثًا عن ذلك وعن نقلته، وأعظمهم تدينا به واتباعًا له واقتداء به، وهؤلاء هم أهل السنة والحديث؛ حفظاً له، ومعرفة بصحيحه وسقيمه، وفقها فيه وفهما يؤتيه الله إياه في معانيه، وإيمانًا وتصديقًا، وطاعة وانقياداً واقتداء واتباعًا، مع ما يقترن بذلك من قوة عقلهم وقياسهم وتمييزهم، وعظيم مكاشفاتهم ومخاطباتهم، فإنهم أسَدُّ الناس نظرًا وقياسًا ورأيًا، وأصدق الناس رؤيا وكشفًا .
أفلا يعلم من له أدنى عقل ودين، أن هؤلاء أحق بالصدق والعلم والإيمان والتحقيق ممن يخالفهم؟ وأن عندهم من العلوم ما ينكرها الجاهل والمبتدع؟ وأن الذي عندهم هو الحق المبين؟ وأن الجاهل بأمرهم والمخالف لهم هو الذي معه من الحشو ما معه، ومن الضلال كذلك؟ وهذا باب يطول شرحه، فإن النفوس لها من الأقوال والأفعال ما لا يحصره إلا ذو الجلال.
والأقوال إخبارات، وإنشاءات؛ كالأمر، والنهي، فأحسن الحديث وأصدقه كتاب الله، خبره أصدق الخبر، وبيانه أوضح البيان، وأمره أحكم الأمر: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6]، وكل من اتبع كلامًا أو حديثًا ـ مما يقال: إنه يلهمه صاحبه، ويوحى إليه، أو إنه ينشئه ويحدثه مما يعارض به القرآن ـ فهو من أعظم الظالمين ظلمًا.
ولهذا لما ذكر الله ـ سبحانه ـ قول الذين ما قدروا الله حق قدره، حيث أنكروا الإنزال على البشر، ذكر المتشبهين به المدعين لمماثلته من الأقسام الثلاثة، فإن المماثل له إما أن يقول: إن الله أوحى إلى، أو يقول: أوحي إلى، وألقى إلى، وقيل لي، ولا يسمى القائل أو يضيف ذلك إلى نفسه، ويذكر أنه هو المنشئ له.
ووجه الحصر: أنه إما أن يحذف الفاعل أو يذكره، وإذا ذكره فإما أن يجعله من قول الله، أو من قول نفسه. فإنه إذا جعله من كلام الشياطين لم يقبل منه، وما جعله من كلام الملائكة فهو داخل فيما يضيفه إلى الله، وفيما حذف فاعله، فقال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ} [الأنعام:93]
وتدبر كيف جعل الأولين في حيز الذي جعله وحيًا من الله ولم يسم الموحي، فإنهما من جنس واحد في ادعاء جنس الإنباء، وجعل الآخر في حيز الذي ادعى أن يأتي بمثله؛ ولهذا قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} {الأنعام: من الآية144}، ثم قال: {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ}، فالمفترى للكذب والقائل:{أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} من جملة الاسم الأول، وقد قرن به الاسم الآخر، فهؤلاء الثلاثة المدعون لشبه النبوة. وقد تقدم قبلهم المكذب للنبوة. فهذا يعم جميع أصول الكفر التي هي تكذيب الرسل أو مضاهاتهم، كمسيلمة الكذاب وأمثاله.
وهذه هي أصول البدع التي نردها نحن في هذا المقام؛ لأن المخالف للسنة يرد بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يعارض قول الرسول بما يجعله نظيرًا له، من رأى أو كشف أو نحو ذلك.
فقد تبين أن الذين يسمون هؤلاء وأئمتهم حشوية،هم أحق بكل وصف مذموم يذكرونه، وأئمة هؤلاء أحق بكل علم نافع وتحقيق، وكشف حقائق واختصاص بعلوم لم يقف عليها هؤلاء الجهال، المنكرون عليهم، المكذبون لله ورسوله.
فإنَّ نَبْزَهُم [النَّبْز: اللَّقَب] بالحشوية: إن كان لأنهم يروون الأحاديث بلا تمييز، فالمخالفون لهم أعظم الناس قولاً لحشو الآراء والكلام الذي لا تعرف صحته، بل يعلم بطلانه، وإن كان لأن فيهم عامة لا يميزون، فما من فرقة من تلك الفرق إلا ومن أتباعها من أجهل الخلق وأكفرهم، وعوام هؤلاء هم عُمَّار المساجد بالصلوات، وأهل الذكر والدعوات، وحجاج البيت العتيق، والمجاهدون في سبيل الله، وأهل الصدق والأمانة، وكل خير في العالم. فقد تبين لك أنهم أحق بوجوه الذم، وأن هؤلاء أبعد عنها، وأن الواجب على الخلق أن يرجعوا إليهم، فيما اختصهم الله به من الوراثة النبوية التي لا توجد إلا عندهم.
وأيضًا، فينبغي النظر في الموسومين بهذا الاسم وفي الواسمين لهم به: أيهما أحق؟ وقد علم أن هذا الاسم مما اشتهر عن النفاة ممن هم مظنة الزندقة، كما ذكر العلماء ـ كأبي حاتم وغيره ـ أن علامة الزنادقة تسميتهم لأهل الحديث حشوية.
ونحن نتكلم بالأسماء التي لا نزاع فيها، مثل: لفظ [الإثبات، والنفي] فنقول:
من المعلوم أن هذا من تلقيب بعض الناس لأهل الحديث الذين يقرونه على ظاهره، فكل من كان عنه أبعد كان أعظم ذمًا بذلك؛ كالقرامطة، ثم الفلاسفة، ثم المعتزلة، وهم يذمون بذلك المتكلمة الصفاتية من الكلابية والكرامية، والأشعرية، والفقهاء، والصوفية وغيرهم، فكل من اتبع النصوص وأقرها سموه بذلك، ومن قال بالصفات العقلية مثل: العلم والقدرة، دون الخبرية، ونحو ذلك، سمى مثبتة الصفات الخبرية حشوية، كما يفعل أبو المعالي الجويني، وأبو حامد الغزالي ونحوهما.
ولطريقة أبي المعالي كان أبو محمد يتبعه في فقهه وكلامه، لكن أبو محمد كان أعلم بالحديث وأتبع له من أبي المعالي وبمذاهب الفقهاء. وأبو المعالي أكثر اتباعًا للكلام، وهما في العربية متقاربان.
وهؤلاء يعيبون منازعهم، إما لجمعه حشو الحديث من غير تمييز بين صحيحه وضعيفه، أو لكون اتباع الحديث في مسائل الأصول من مذهب الحشو؛ لأنها مسائل علمية، والحديث لا يفيد ذلك، لأن اتباع النصوص مطلقًا في المباحث الأصولية الكلامية حشو؛ لأن النصوص لا تفي بذلك؛ فالأمر راجع إلى أحد أمرين: إما ريب في الإسناد أو في المتن، إما لأنهم يضيفون إلى الرسول ما لم يعلم أنه قاله؛ كأخبار الآحاد، ويجعلون مقتضاها العلم، وإما لأنهم يجعلون ما فهموه من اللفظ معلومًا وليس هو بمعلوم، لما في الأدلة اللفظية من الاحتمال.
ولا ريب أن هذا عمدة كل زنديق ومنافق، يبطل العلم بما بعث الله به رسوله، تارة يقول: لا نعلم أنهم قالوا ذلك، وتارة يقول: لا نعلم ما أرادوا بهذا القول. ومتى انتفى العلم بقولهم أو بمعناه، لم يستفد من جهتهم علم، فيتمكن بعد ذلك أن يقول ما يقول من المقالات، وقد أمن على نفسه أن يعارض بآثار الأنبياء؛ لأنه قد وكل ثغرها بذينك الدامحين الدافعين لجنود الرسول عنه، الطاعنين لمن احتج بها.
وهذا القدر بعينه هو عين الطعن في نفس النبوة، وإن كان يقر بتعظيمهم وكمالهم إقرار من لا يتلقى من جهتهم علمًا، فيكون الرسول عنده بمنزلة خليفة يعطي السِّكَّة [السِّكَّة: حديدة منقوشة يضرب عليها الدراهم] والخطبة رسمًا ولفظًا، كتابة وقولاً، من غير أن يكون له أمر أو نهي مطاع. فله صورة الإمامة بما جعل له من السكة والخطبة، وليس له حقيقتها.
وهذا القدر ـ وإن استجازه كثير من الملوك ـ لعجز بعض الخلفاء عن القيام بواجبات الإمارة من الجهاد والسياسة، كما يفعل ذلك كثير من نواب الولاة لضعف مستنيبه وعجزه فيتركب من تقدم ذي المنصب والبيت وقوة نائبه صلاح الأمر، أو فعل ذلك لهوى ورغبة في الرئاسة ولطائفته، دون من هو أحق بذلك منه، وسلك مسلك المتغلبين بالعدوان ـ فمن المعلوم أن المؤمن بالله ورسوله لا يستجيز أن يقول في الرسالة: إنها عاجزة عن تحقيق العلم وبيانه، حتى يكون الإقرار بها مع تحقيق العلم الإلهي من غيرها موجبًا لصلاح الدين، ولا يستجيز أن يتعدى عليها بالتقدم بين يدي الله ورسوله، ويقدم علمه وقوله على علم الرسول وقوله، ولا يستجيز أن يسلط عليها التأويلات العقلية، ويدعى أن ذلك من كمال الدين، وأن الدين لا يكون كاملاً إلا بذلك.
وأحسن أحواله: أن يدعي أن الرسول كان عالمًا بأن ما أخبر به له تأويلات وتبيان، غير ما يدل عليه ظاهر قوله ومفهومه، وأنه ما ترك ذلك إلا لأنه ما كان يمكنه البيان بين أولئك الأعراب ونحوهم، وأنه وكل ذلك إلى عقول المتأخرين، وهذا هو الواقع منهم.
فإن المتفلسفة تقول: إن الرسل لم يتمكنوا من بيان الحقائق لأن إظهارها يفسد الناس، ولا تحتمل عقولهم ذلك، ثم قد يقولون: إنهم عرفوها. وقد يقول بعضهم: لم يعرفوها، أو أنا أعرف بها منهم، ثم يبينونها هم بالطرق القياسية الموجودة عندهم. ولم يعقلوا أنه إن كان العلم بها ممكنا فهو ممكن لهم، كما يدعون أنه ممكن لهم، وإلا فلا سبيل لهم إلى معرفتها بإقرارهم، وكذلك التعبير وبيان العلم بالخطاب والكتاب إن لم يكن ممكنًا فلا يمكنكم ذلك وأنتم تتكلمون وتكتبون علمكم في الكتب. وإن كان ذلك ممكنًا فلا يصح قولكم: لم يمكن الرسل ذلك.
وإن قلتم: يمكن الخطاب بها مع خاصة الناس دون عامتهم ـ وهذا قـولهم ـ فمن المعلوم أن علم الرسل يكون عند خاصتهم كما يكون علمكم عند خاصتكم. ومن المعلوم أن كل من كان بكلام المتبوع وأحواله وبواطن أموره وظواهرها أعلم، وهو بذلك أقوم، كان أحق بالاختصاص به. ولا ريب أن أهل الحديث أعلم الأمة وأخصها بعلم الرسول، وعلم خاصته مثل: الخلفاء الراشدين وسائر العشرة، ومثل: أبي بن كعب، وعبد الله ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، ومثل: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، وعباد بن بشر، وسالم مولي أبي حذيفة، وغير هؤلاء ممن كان أخص الناس بالرسول، وأعلمهم بباطن أموره وأتبعهم لذلك.
فعلماء الحديث أعلم الناس بهؤلاء وببواطن أمورهم، وأتبعهم لذلك، فيكون عندهم العلم: علم خاصة الرسول وبطانته، كما أن خواص الفلاسفة يعلمون علم أئمتهم، وخواص المتكلمين يعلمون علم أئمتهم، وخواص القرامطة والباطنية يعلمون علم أئمتهم، وكذلك أئمة الإسلام مثل أئمة العلماء. فإن خاصة كل إمام أعلم بباطن أموره، مثل: مالك بن أنس، فإن ابن القاسم لما كان أخص الناس به وأعلمهم بباطن أمره اعتمد أتباعه على روايته، حتى إنه تؤخذ عنه مسائل السر التي رواها ابن أبي الغَمْر، وإن طعن بعض الناس فيها، وكذلك أبو حنيفة، فأبو يوسف، ومحمد ، وزُفَر أعلم الناس به، وكذلك غيرهما.
وقد يكتب العالم كتابًا أو يقول قولاً، فيكون بعض من لم يشافهه به أعلم بمقصوده من بعض من شافهه به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فرُبَّ مُبَلَّغ أوْعَى من سامِع)، لكن بكل حال لابد أن يكون المبلغ من الخاصة العالمين بحال المبلغ عنه، كما يكون في أتباع الأئمة من هو أفهم لنصوصهم من بعض أصحابهم.
ومن المستقر في أذهان المسلمين: أن ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء هم الذين قاموا بالدين علمًا وعملاً ودعوة إلى الله والرسول، فهؤلاء أتباع الرسول حقًا وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت، فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشْب الكثير، فزكت في نفسها وزكى الناس بها. وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة؛ ولذلك كانوا ورثة الأنبياء الذين قال الله تعالى فيهم :{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص:45]، فالأيدي: القوةُ في أمر الله، والأبصار: البصائرُ في دين الله، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه.
فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم والفقه في الدين والبصر والتأويل، ففجَّرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورزقت فيها فهماً خاصًا، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وقد سئل: هل خصكم رسول اللهصلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبَرَأ النَّسَمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدًا في كتابه.
فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الذي أنبتته الأرض الطيبة. وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الطبقة الثانية، وهي التي حفظت النصوص، فكان همها حفظها وضبطها، فوردها الناس وتلقوها بالقبول، واستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها واتجروا فيها، وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات، ورووها كل بحسبه:}قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ}.
وهؤلاء الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (نَضَّر الله امرأ سمع مقالتي فوَعَاها، ثم أداها كما سمعها، فرُبَّ حامل فقه وليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
وهذا عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ حبر الأمة، وترجمان القرآن، مقدار ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغ نحو العشرين حديثًا الذي يقول فيه: سمعت ورأيت، وسمع الكثير من الصحابة، وبورك له في فهمه والاستنباط منه، حتى ملأ الدنيا علمًا وفقهًا، قال أبو محمد ابن حزم: وجمعت فتواه في سبعة أسفار كبار، وهي بحسب ما بلغ جامعها، وإلا فعلم ابن عباس كالبحر، وفقهه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس، وقد سمعوا ما سمع، وحفظوا القرآن كما حفظه، ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي وأقبلها للزرع، فبذر فيها النصوص، فأنبتت من كل زوج كريم، و{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4].
وأين تقع فتاوى ابن عباس، وتفسيره، واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويَدْرُسُه بالليل دَرْسًا، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه، والاستنباط، وتفجير النصوص، وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها.
وهكذا ورثتهم من بعدهم، اعتمدوا في دينهم على استنباط النصوص، لا على خيال فلسفي، ولا رأي قياسي، ولا غير ذلك من الآراء المبتدعات، لا جرم كانت الدائرة والثناء الصدق، والجزاء العاجل والآجل لورثة الأنبياء التابعين لهم في الدنيا والآخرة؛ فإن المرء على دين خليله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران:31]
وبكل حال، فهم أعلم الأمة بحديث الرسول، وسيرته ومقاصده وأحواله.
ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه، أو كتابته أو روايته، بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه، ومعرفته وفهمه ظاهرًا وباطنًا، واتباعه باطنًا وظاهرًا، وكذلك أهل القرآن.
وأدنى خصلة في هؤلاء محبةُ القرآن والحديث، والبحث عنهما وعن معانيهما، والعمل بما علموه من موجبهما. ففقهاء الحديث أخْبَرُ بالرسول من فقهاء غيرهم، وصوفيتهم أتبع للرسول من صوفية غيرهم، وأمراؤهم أحق بالسياسة النبوية من غيرهم، وعامتهم أحق بموالاة الرسول من غيرهم.
ومن المعلوم أن المعظمين للفلسفة والكلام، المعتقدين لمضمونهما، هم أبعد عن معرفة الحديث، وأبعد عن اتباعه من هؤلاء. هذا أمر محسوس، بل إذا كشفت أحوالهم وجدتهم من أجهل الناس بأقواله صلى الله عليه وسلم وأحواله، وبواطن أموره وظواهرها، حتى لتجد كثيرًا من العامة أعلم بذلك منهم، ولتجدهم لا يميزون بين ما قاله الرسول وما لم يقله، بل قد لا يفرقون بين حديث متواتر عنه، وحديث مكذوب موضوع عليه.
وإنما يعتمدون في موافقته على ما يوافق قولهم، سواء كان موضوعًا أو غير موضوع، فيعدلون إلى أحاديث يعلم خاصة الرسول بالضرورة اليقينية أنها مكذبة عليه، عن أحاديث يعلم خاصته بالضرورة اليقينية أنها قوله، وهم لا يعلمون مراده، بل غالب هؤلاء لا يعلمون معاني القرآن، فضلاً عن الحديث، بل كثير منهم لا يحفظون القرآن أصلا. فمن لا يحفظ القرآن، ولا يعرف معانيه، و لا يعرف الحديث ولا معانيه، من أين يكون عارفًا بالحقائق المأخوذة عن الرسول؟!
وإذا تدبر العاقل، وجد الطوائف كلها، كلما كانت الطائفة إلى الله ورسوله أقرب كانت بالقرآن والحديث أعرف وأعظم عناية، وإذا كانت عن الله وعن رسوله أبعد، كانت عنهما أنأى، حتى تجد في أئمة علماء هؤلاء من لا يميز بين القرآن وغيره، بل ربما ذكرت عنده آية، فقال: لا نسلم صحة الحديث ! وربما قال: لقوله عليه السلام كذا، وتكون آية من كتاب الله. وقد بلغنا من ذلك عجائب، وما لم يبلغنا أكثر.
وحدثني ثقة: أنه تولى مدرسة مشهد الحسين بمصر بعض أئمة المتكلمين، رجلٌ يسمى [شمس الدين الأصبهاني] شيخ الأيكي، فأعطوه جزءًا من الربعة فقرأ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْمَصْ ) حتى قيل له: ألف لام ميم صاد.
فتأمل هذه الحكومة العادلة! ليتبين لك أن الذين يعيبون أهل الحديث، ويعدلون عن مذهبهم، جهلة زنادقة منافقون بلا ريب؛ ولهذا لما بلغ الإمام أحمد عن [ابن أبي قتيلة] أنه ذكر عنده أهل الحديث بمكة، فقال: قوم سوء. فقام الإمام أحمد، وهو ينفض ثوبه، ويقول: زنديق، زنديق، زنديق. ودخل بيته، فإنه عرف مغزاه.
وعيب المنافقين للعلماء بما جاء به الرسول قديم، من زمن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما أهل العلم فكانوا يقولون: هم [الأبدال] لأنهم أبدال الأنبياء وقائمون مقامهم حقيقة، ليسوا من المعدمين الذين لا يعرف لهم حقيقة، كل منهم يقوم مقام الأنبياء في القدر الذي ناب عنهم فيه، هذا في العلم والمقال، وهذا في العبادة والحال، وهذا في الأمرين جميعًا. وكانوا يقولون: هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، الظاهرون على الحق؛ لأن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسله معهم، وهو الذي وعد الله بظهوره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا.